هموم

محمد زكي ابراهيم

– “ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
صاح الشرطي ذو الهندام المهلهل وهو يتطلع إلى الصبي بازدراء.
– “جئت لأرى أبي”
– “ارحل من هنا على الفور”!
امتثل الصبي للأمر، وهرع لامتطاء دراجته. كان قد أسندها الى جذع الشجرة الضخم، القريب من المكان. ألقى نظرة أخيرة على الشرطي، ففهم الأخير ما بداخل الصبي من احتقار.
– “بسرعة”!
لكنه لم يستجب لصراخه، ومضى في طريقه من دون اكتراث.
ثمة أمور لا يمكن للمرء إلا أن يقف حيالها حائراً، ولا يعرف لماذا حدثت بالفعل. كان الصبي الذي صرف بقوة عن رغبته بلقاء أبيه، عاجزاً عن إدراك سر امتعاض الشرطي منه.
وحينما وصل إلى البيت أمال دراجته صوب الجدار، ثم دخل غرفته من دون أن يلقي التحية على أمه. كان أخوته الصغار يلعبون في فناء الدار، فأسرعوا للاجتماع حوله، أما هو فبقي صامتاً. شعر أحدهم بالحزن، لكنه لم يستسلم للأمر. ظن أن أخاه ربما تضايق منه لعبثه بكتبه، فقال معتذراً.
– ” لم أمزق أي ورقة اليوم”.
لم يستطع الصبي أن يتمالك دموعه، فأقبل عليه بحنو:
– “لا عليك. لم يزعجني هذا”.
ثم أردف :
– “يمكنك أن تعبث حيثما تشاء”.
احتج الصغير:
– “لا. لن أعبث بشئ بعد اليوم”.
حينما أقبلت الأم، كان الوجوم يخيم على الوجوه. لم تحتج إلى ذكاء شديد لتعرف السبب.
– “هل منعوك؟”
هز رأسه موافقاً، وأطرق برأسه نحو الأرض، فلم تحر الأم جواباً، وغرقت هي ايضاً في التفكير. كان غياب زوجها يعني لها الكثير.
– “سيذهب رجل ما لاستطلاع الأمر، فأنت ماتزال صغيراً”.
صرخ الصبي :
– ” ليس كما تظنين. كان الشرطي فظاً للغاية”.
– ” لا تهتم كثيراً، سنتدبر الأمر”.
سأل أحد الصغار:
– ” هل سيعود أبي؟”
شعرت أنها تكذب على أبنائها من دون مبرر. فلم تكن في داخلها تصدق أنه سيعود سريعاً، بل ربما كانت تعتقد أنه لن يعود بالمرة. تصنعت الابتسام ونظرت إليه بمحبة، ثم قالت:
– “من دون شك يا عزيزي”.
كانت الأم تعرف أن كثيرين مثل زوجها ذهبوا ولم يعودوا إلا بعد أعوام طويلة. هالها مثل هذا الأمر، وشعرت بالفجيعة. ماذا لو صدقت ظنونها هذه المرة. كيف ستتدبر أمرها مع أربعة أبناء أكبرهم في الثانية عشرة. تطلعت إلى السماء بحزن، وتمتمت بكلمات غير مفهومة، ثم انهمرت الدموع من عينيها:
– “لماذا تبكين يا أمي؟”
سأل أحد الصغار:
– ” لا تلق بالاً. تهيأ أنت وأخوتك للغداء”.
ربما كانت تظن أن أبناءها يجهلون ماذا سيحدث لهم، لو طال غياب الأب إلى ما لانهاية.
– ” هل سيعود حقاً؟”
– ” بالطبع يا صغيري. بالطبع”.
انشغلت بتحضير الغداء، في ما كان الصبي يمسح التراب عن دراجته. ثمة أمور ينبغي له القيام بها، فقد يحظى بشرطي آخر، ييسر له فرصة اللقاء بأبيه. عول على ذلك كثيراً، لكنه لم يفصح عنه، وعزم على المحاولة من جديد.
غرق في موجة من التفكير، وأدرك أنه مقبل على مغامرة جديدة، لا يعرف إن كان سيحالفها النجاح أم لا.
بعد الظهر، امتطى دراجته وهرع صوب المكان. حاول أن يجد وسيلة ما تحقق له مراده. نظر إلى البوابة فألفى رجلاً آخر يقوم بمهمة الحراسة. آثر أن يجازف بالاقتراب منه ويلقى عليه السلام. هش له الشرطي وسأله ماذا يريد، فروى له الصبي القصة بأسى بالغ.
قال الشرطي:
– “سأخبر أباك بالأمر. ولكني لا أنصحك بالمجئ هنا دائماً”.
انفرجت أساريره قليلاً، وغادر المكان. ولم ينس أن يرمق الشرطي بنظرة محبة، ويرفع يده مودعاً. لكن الرجل لم يرد التحية، ومضى يذرع الأرض جيئة وذهاباً، ويداعب سلاحه ذات اليمين وذات الشمال. من دون أن يبدو عليه أي اكتراث.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة