الأدب العراقي ومحنة الوصف

لا يمكن لأحد أن ينكر تأثير عملية الاغتراب عن البلد بالنسبة للروائي وكذلك على الحركة الانتاجية وإبداعها وطرق تبنيها، لأنه أي المغترب سيكون أمام مساحاتٍ أوسع من المعرفة واكتسابها ومن التجربة ومرانها ومن التأمل والاغتراف منه ومن الاحتكاك وصقل الموهبة.. إن هذا الأمر لا مفرّ من التأكيد عليه لأنه حقيقةٌ مسلّمٌ بها من ناحية الاطلاع على تجارب العالم من خلال اللغة الإم إذا ما عرفنا إن الترجمة قد تكون خائنةً في توصيل أهداف العمل الى الأديب الذي ظلّ في بلده ولم يغترب.. ولكن هل يمكن لنا القول إن النتاج الروائي للأديب المغترب ستكون محليّا بالدرجة ذاتها لإنتاج الرواية للأديب في الداخل؟ وهل يمكن أن يحقّق الأديب المغترب تلك الهوية التي تميّز هذه الرواية عن تلك لمجرد إنه تمكّن من الاطلاع والاحتكاك والمعرفة والمران ؟ إن الإجابة ستنقسم الى رأيين.. الأول منها أن المغترب سيكون نتاجه ربما أكثر جودةٍ ومهارةٍ من نتاج الأديب في الداخل العراقي وإنه سيكون بإنتاجه الروائي أقرب الى المدارس الأوروبية.. ولكنه لن يحقّق الهوية العراقية التي يمكن أن تشير له خارج التسمية التعريفية التي يمكن لو تم تغييرها الى هويةٍ أخرى لن يكون بذاك المحمول المراد منه.. والثانية إن الأديب في الداخل هو الذي يحمل هويته المحلية لأنه يأتي بمحمول الواقعية التي لا تغادر المخيلة ويأتي بالمخيلة التي لا تغادر واقعيتها وسيكون نتاجه أكثر التصاقاً بالأفكار المتواردة، وإن لا كتابة إبداعية لا تنطلق من محليتها.
أن مثل هكذا آراء تبقى كونها تدور في حلقة الصراع ذاته ما بين رؤيتين تسعيان الى المكوث في الإبداع.. ولأن الإجابة المؤكّدة التي يحتاجها المتلقّي أساساً إنه يحتاج الى نصّ أدبيّ يأخذه الى حيث يريد من امتاعٍ ودهشةٍ وقدرةٍ على الغوص في تلابيب المخيلة والاتيان بالأسئلة الفكرية والمحمولات الفلسفية والقدرة على إنتاج قصديةٍ جديدةٍ وفهمٍ جديدٍ لعناصر التأويل.. مثلما تبقى الإجابة تقع على عاتق النقد كونه المرشّح لماهية هذا النصّ إذا كان مغادراً لمحليته، أو فاشلاً في استلهام هذه العناصر، سواء عن طريق الذاكرة أو المعايشة، لأنه أيّ النصّ والمنتج يتبّعان المخيلة التي يجب توافرها في العناصر الإبداعية المتّخذة من هذه اللحظة الخارقة سبيلاً لها، لتكوين عناصرها وقدرة المبدع على الإدارة وتبنّي أفكارها ورؤاها هي المنطقة الأحق بالمتابعة.
إن الأسئلة المثارة لم تجد لها جواباً لأن النقد لم يتمكّن من الوصول الى عملية التفاضل والتقارب في تعريف الانتاج الروائي، ولهذا سيظلّ هناك نوعٌ من الصراع في الانتساب المكاني المتّصل برسم الهوية وسيكون هناك تأخيرٌ في النقد ورصده الذي يُعطي لهذا الصراع هويته التي ربما تتصاعد حدّته أو تبقى مشتعلةً تحت الرماد., ويبقى الصراع يحمل صراعه معه وما يترتّب عليه من استخلاص أو تبويب المكانة بين الجانبين.. فمن يرى إن هناك فوقيةً في الترتيب والاطلاع والأحقية، ومن يرى عملية التباهي بالاطلاع من جهةٍ والتفاخر بعدم الخروج من المحلية لأنها التي تعطي الثمار. والسؤال: هل النصّ الأدبي خاضعٌ لميزان المحلية فقط؟ وهل القدرة على الانتاج تحتاج الى مخيلةٍ لا تستند فقط الى الواقع وتحتاج الى اطلاع.؟ وهل أديب الداخل لا يمكن له الاطلاع إلّا إذا غادر.؟ وهل الاطلاع والاحتكاك والعيش في بيئة مستقرة ربما قادرة على انتاج نصٍّ جيدٍ يمتلك كل مفاتيح الإبداع والتمايز وأن يكون مائزاً ؟ هناك الكثير من الأسئلة التي تنطوي جميعها ربما على إجابةٍ واحدةٍ.. إنها المخيلة التي تنجب نصوصاً محمّلةً بالدهشة وهي وحدها أينما تكون تصنع الإبداع.
علي لفته سعيد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة