لأسباب عديدة موضوعية وذاتية تضخمت المؤسسة العسكرية والأمنية في هذا الوطن المنكوب بلعنة الحروب الداخلية والخارجية، بشكل غير طبيعي، لا سيما بعد ثورة أسعار البترول بداية السبعينيات من القرن المنصرم، حيث سخرت تلك الثروات الهائلة لتنمية آلة الحرب والدمار، والتي باشرت باكورة حروبها الخارجية العام 1980 فيما عرف بـ (قادسية صدام) والتي فاقت بالوقت الذي استغرقته جميع حروب القرن، وألحقت بالبلدين الجارين (العراق وإيران) خسائر وأضرار بشرية ومادية، لم يعرفها تأريخ البلدين والمنطقة من قبل. ولم يمر وقت طويل على نهايتها، حتى تذكر أول مهيب دمج في تاريخ العسكرية، ضرورة ضم الفرع الى الأصل، ليدفع بقواته الضاربة وبنحوٍ مفاجئ الى دولة الكويت، جارّاً البلد الى مصير لم تتخيله أكثر العقول تشاؤماً وسوداوية. الفصول التي تلت بعد ذلك وبرغم المآسي والكوراث الهائلة التي رافقتها، لم تكن مختلفة عن سابقاتها، حتى بعد زوال النظام المباد ربيع العام 2003.
خلف شماعة مقاومة “المحتل” وجد جنرالات ومراتب الأجهزة العسكرية والقمعية والتنظيمات شبه العسكرية، الذريعة والوسيلة ليمارسوا التخصص الوحيد الذي يجيدونه (الحرب)، وقد أسهمت السياسات والقرارات غير المسؤولة والبعيدة عن الحكمة للطبقة السياسية التي تلقفت زمام الأمور بعد “التغيير” في تقديم كل ما تحتاجه فلول النظام المباد لحرف مسار الحقبة الجديدة عن سبيلها السليم، أي إعادة بناء وإعمار العراق بعد الخراب الهائل الذي لحق بكل أشكال الحياة فيه، إذ تم إهدار المزيد من الدماء والأرواح والقوى والإمكانات والفرص. وعوضاً عن مشاريع الإعمار والتنمية، تم عسكرة الدولة والمجتمع بشكل لا يقل عما كان زمن المهيب الدمج، ليصبح العراق اليوم على رأس قائمة الدول في امتلاك أكبر عدد من الجنرالات بين جيوش وعساكر المنطقة والعالم، أما على صعيد جنرالات العصابات الإرهابية والإجرامية ومثيلاتها في التنظيم والممارسة والأهداف والسلوك، فحدّث ولا حرج، حيث تحولت من كانت تعرف بـ (أرض السواد) لكثرة بساتينها ومساحاتها الخضراء؛ الى غابة لبنادق وأسلحة وشوارب تهتز وتتقافز على تضاريس تزداد يباباً وبؤساً يوماً بعد آخر.
إن الانتصار الحقيقي لشعوب هذا الوطن المنكوب بلعنة العسكرة والنزاعات والحروب؛ يتحقق فقط بانتشالهم من لعبة الموت هذه، عبر تجفيف منابع وذرائع اشتعال الحروب وبؤر التوتر، وتكريس كل الجهود من أجل وضع مصير الوطن والناس بيد نوع آخر من الجنرالات ينشطون في جبهات البناء والإعمار، كما حصل في تجارب العديد من الشعوب والأمم التي مرت بمثل هذه المحن القاسية. لا يمكن أن نختلف على ما نضح عن حقبة الحروب المتتالية والمتواصلة ليومنا هذا، من فضلات ونتائج كارثية، حيث أبرزت أسوأ ما لدينا من صفات، وعصفت بالكثير من القيم والتقاليد السليمة، لتحل مكانها معايير وقيم أخرى استباحت كل مكامن القوة والحيوية في الدولة والمجتمع. نحتاج أولاً الى وعي جديد وهرم أولويات مغايران لما هو سائد حتى هذه اللحظة، وأن تتصدر قضايا الاقتصاد والتنمية والملفات والهموم المرافقة لها رأس اهتمامات المتصدين للمسؤوليات العليا في البلد، وهذا يعني تنحي غالبية القوى والقوافل والشخصيات التي تعرفنا على قدراتها ونزعاتها الفعلية في العقود الاخيرة (قبل التغيير وبعده) والمهووسة بأمهات المعارك وأهازيج الرسائل الخالدة…
جمال جصاني
جنرالات للإعمار والبناء
التعليقات مغلقة