نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 13

تحديات تخطيط بغداد والمؤتمر الاول لمنظمة المدن والعواصم العربية
لم يكن قانون التخطيط الاساسي لمدينة بغداد قد صدر بعد ، بل وضعت تخطيطات مناطقية اولية لأراضٍ مخصصة داخل حدود المدينة لمناطق تجارية او احياءٍ سكنية او مناطق خضراء ، وتحديد محاور الطرق الرئيسة واستعمالات الارض بنحو عام . وكان مكتب الاستشاري (بول سيرفس) يعمل على اكمال المراحل الاولية لتخطيط مدينة بغداد . ولتحقيق استمرار نمو المدينة والنشاط العمراني فيها ، فقد اصبح من الضروري تحديد مدى او مقدار انسجام طلبات البناء مع متطلبات التخطيط العام للمدينة . وكانت لدينا ثلاث جهات مساعدة ، الاولى هي جمع
طلبات اجازة البناء وتقديمها الى خبير مخطط معين من قبل الاستشاري بول سيرفس ، للنظر في مدى انسجام هذه الطلبات مع متطلبات التخطيط الاساس ، وبالتالي اعطاء الموافقة او الرفض . والجهة الثانية كانت برئاسة المعماري الاستاذ عبد الله احسان كامل ، وهي لجنة للنظر في مدى انسجام طلبات الابنية التجارية بدءا من دكاكين البقالة الصغيرة في الاحياء السكنية مع التخطيط المستقبلي للمدينة . والجهة الثالثة هي وجود خبير تخطيط المدن من الامم المتحدة ، لإعطاء المشورة في الامور التخطيطية الرئيسية لبغداد .
وبرغم وجود هذه الجهات الثلاث ، فإنها لم تقدم على مساعدتي تخطيطياً على حسم الخلافات مع اصحاب طلبات اجازات البناء . ومن جهتي لم اتدخل في اعمالها التخطيطية على الدوام .
رُفض الكثير من طلبات البناء ، ووقف الكثير من المواطنين معارضين اتجاهات تخطيط المدينة .ونقلت هذه المفاهيم بنحو او آخر الى مجلس امانة العاصمة ، ومسؤولي الدولة . وذلك لغياب الوسائل الاعلامية لبيان اهمية التخطيط لمستقبل المدينة وتطورها . وبطبيعة الحال كانت ردود الافعال المختلفة السلبية تنقل اليّ بصفتي رئيسا للهيئة الفنية وعضو لجان تخطيط بغداد . ولم يكن امامي سوى اتخاذ القرارات المناسبة بموجب الضوابط المعمول بها ، او اقناع المقابل بانتظار انتهاء أعمال تخطيط المدينة . كانت مهمتي صعبة للغاية ، لا لأني لا استطع القيام بتلك الاعباء ، ولكن بسبب عدم وضوح المرحلة تخطيطيا يومئذ . وقد ولد هذا الامر شعوراً بعدم الارتياح او نوع من الاحراج . واتذكر عند تسلمي منصب رئيس الهيئة الفنية ، جاءني صديقي الاستاذ عبد الله احسان كامل لتهنئتي ، فوقف امامي قائلا : لا ادري هل اهنئك على هذا المنصب الرفيع ام لا ؟! فقد كان يدرك تماما ماهي صعوبات العمل في الاعمال البلدية التي لها علاقة مباشرة مع المواطنين .
بعد مشاورات عديدة حول تأليف منظمة للمدن والعواصم العربية ، وجهت الدعوة لمدينة بغداد لحضور المؤتمر الاول لهذه المنظمة في بيروت . وتالف الوفد العراقي من امين العاصمة السيد مدحة الحاج سري ، ومني بصفتي رئيس الهيئة الفنية ، واثنين من مهندسي هيئتي هما حسام العباسي وعبد العزيز سعيد . وقد تأخر سفر الوفد العراقي بسبب قيام حركة 17 تموز 1968 ، لكننا غادرنا في الاسبوع الاخير من شهر تموز ، وفي اثناء انعقاد المؤتمر ، وفي يوم 30 تموز سمعنا بوقوع احداث سياسية وتحركات عسكرية ببغداد ، اذ جرى تعديل وزاري كبير في حكومة 17 تموز التي لم تعمر اكثر من ثلاثة عشر يوما . وعين احمد حسن البكر رئيسا للوزراء اضافة الى منصب رئاسة الجمهورية .
اقر المؤتمر الاول لمنظمة المدن والعواصم العربية المبادئ الرئيسية التالية :
• أقر المؤتمر تكوين منظمة المدن والعواصم العربية ويكون مقر المنظمة في مدينة الكويت ، بعد اقرار تشكيلات المنظمة وادارتها .
• اقرار العديد من مواد النظام الداخلي للمنظمة مثل مواعيد اجتماع اللجان ومواعيد انعقاد مؤتمرات المنظمة واهدافها .
• اقرار مبدأ المؤاخاة بين المدن العربية.
• مناقشة البحوث العلمية المقدمة للمؤتمر .
• الموافقة على اصدار مجلة تعنى بتنمية المدن العربية بلديا وبيئيا واخبارها ونشاطات المنظمة .
وقد سعدنا باللقاءات التي جرت في المؤتمر بين المسؤولين عن ادارة المدن العربية ، وتبادلنا وجهات النظر للعديد من القضايا التي تخص تطوير المدن . وقد ساعدني ذلك على تفتح ذهني على العلاقات الدولية والعربية منها بصورة خاصة . وما ان عدنا الى بغداد ، وباشرنا بأعمالنا ، حتى صدر مرسوم جمهوري بإحالة السيد مدحة الحاج سري على التقاعد ، وتعيين السيد ابراهيم اسماعيل امينا للعاصمة ، وهو من العسكريين المقربين لرئيس الجمهورية احمد حسن البكر .
مؤتمر منظمة الصحة العالمية WHO في موسكو
اتصل بيّ مرة الاستاذ احسان شيرزاد وزير البلديات ، وطلب مني ترشيح اثنين من مهندسي امانة العاصمة ، للمشاركة في ( ندوة دراسية متنقله Travelling Seminar ) تعقدها منظمة الصحة العالمية في العاصمة السوفيتية موسكو ومدن اخرى ، تحت عنوان ( علاقة الصحة العامة بتخطيط المدن ) . ويقوم المشاركون فيها بزيارة المدن السوفيتية لدراسة تجاربها وخبراتها وتبادل وجهات النظر في هذا الموضوع . لم اتردد في ترشيح اسمي لهذه الندوة المهمة ، وكررت اسمي مرة اخرى عندما طلب ترشيح الاسم الثاني للندوة المذكورة ، فقد كنت ارغب بزيارة الاتحاد السوفيتي والاطلاع على تجربته في تخطيط المدن وادارتها .
سافرت الى موسكو ، التي استضافت ممثلي 35 عاصمة حضرت المؤتمر . وكانت الجلسات الرئيسة تعقد في موسكو ، وتنتقل الجلسات الاخرى الى مدن سوفيتية اخرى كمدينة ( سوجي ) و ( باكو ) . وكان علينا نحن اعضاء المؤتمر دراسة ما لا يقل عن ثلاثين بحثا مقدما في مواضيع مختلفة حول علاقة تأثير تخطيط المدن على صحة الانسان فيها ، وتقديم ملاحظاتنا وتجاربنا عند مناقشة البحوث المتعلقة مثلاً بتأثير
الحدائق و الباركات على مخطط المدينة وتأثير حركة المرور ،
والتوصل الى الحلول المثلى لاعتمادها . وكانت ادارة منظمة الصحة العالمية والمسؤولون الروس يديرون جلسات وجولات المؤتمر . واشرف على الجوانب الفنية والبحوث استشاريان عالميان ، احدهما يوغسلافي ، والاخر من الولايات المتحدة الامريكية .
لقد كان لهذه الندوة تأثير كبير على مفاهيمي حيث ان خلفياتي الهندسية هي اتجاه الهندسة المدنية . ادركت بنحو واضح ما يمكن ان تقدمه المدينة تخطيطياً الى الانسان وما على المواطن ان يقدمه الى المدينة من واجبات.
تحديد المنطقة الخضراء واغلاقها
ادركت بنحو واضح ، بعد مرور نحو السنة من العمل في امانة العاصمة ، وفي ادق دوائرها ، مقدارعجز هذه الدائرة الكبيرة عن تلبية متطلبات مدينة بغداد الجسيمة . وثبت لي ان النهوض بمستوى الخدمات البلدية لا يتم الا بوجود منهج تفصيلي واضح وكامل ، يستند الى تخطيط واضح وقانون صارم لمدينة بغداد . لذا حصرت الكثير من جهدي على اكمال هذا التخطيط والعمل على اقراره .
في ظهر احد الايام ، دعاني امين العاصمة السيد ابراهيم اسماعيل ، وطلب مني احضار الخرائط والمخططات لمنطقة كرادة مريم التي تضم القصر الجمهوري . وبعد الاطلاع عليها ، ابلغني بتوجيهات رئيس الجمهورية ، بإغلاق الطرق المؤدية الى القصر ، وهو شارع المنصور الذي يمر من امام دار الاذاعة والتلفزيون بدء من ساحة الشواف عند جسر الجمهورية الى ساحة 14 تموز عند الجسر المعلق ووضع نقاط سيطرة، واغلاق جميع الشوارع الفرعية المؤدية الى ذلك الشارع والمنطقة المحيطة بالقصر الجمهوري . هالني الامر المخالف لمتطلبات تخطيط منطقة بغداد . وعندما افهمت الامين بذلك ، اجابني : لو كان هناك تخطيط في هذا البلد لما حصلت الثورة ! . وقد فهمت ما يريده الامين ، وادركت ان اولويات العمل تختلف باختلاف الاشخاص و الظروف.
مجلس الامانة يرفض تخطيط بغداد واستقالتي من الامانة
عرضتُ على مجلس امانة العاصمة ، وهو السلطة العليا في عمل الامانة ، الخرائط والمخططات الاولية للتخطيط المقترح لمدينة لبغداد ، وكل التخطيطات والمقترحات والمعلومات التي وضعت او قدمت جاءت استنادا الى العقد المبرم مع الاستشاري بول سيرفس الذي وقع بناءً على قرارات المجلس والجهات العليا . ولم اكن على اطلاع كامل على المبادئ التصميمية للتخطيط كما بينت للمجلس ، لعدم مواكبتي لكل الاعمال منذ المباشرة بها . ولكني شرحت للمجلس ما تطلب من توضيحات ، والاهداف المستقبلية للتخطيط والجوانب التنظيمية الملحقة به. وبعد نقاش طويل واستفسار المجلس عن كلفة تنفيذ هذا التخطيط , ورغم توضيحي ان تخطيط المدينة لا يكلف الدائرة مبالغ لتنفيذه بل هو منهج وتخطيطات توجه نشاطات بناء وتطوير مدينة بغداد بموجبه , رفض المجلس المصادقة على المخططات المقدمة ، واتخذ قرارا بإحالة الموضوع الى مجلس التخطيط للبت في الامر . وتساءلت مع نفسي ، هل ان ذلك من مسؤولية مجلس التخطيط ام لا ؟ وقد يستغرق ذلك فترات طويلة للنظر فيه . وادركت من ذلك ان مجلس الامانة قد تهرب من مسؤولياته في اقرار ما وصل اليه خبراء الامانة ومستشاروها ، أجابنا مجلس التخطيط الاقتصادي بأن تخطيط مدينة بغداد هو من مسؤوليات وصلاحيات المدينة . ولا أخفي انني شعرت بخيبة الامل والاحباط ، وتساءلت : كيف اتمكن من القيام بعملي بنحو سليم من دون تخطيط ومنهج للعمل ؟
تدارك امين العاصمة الموقف وبين لي انه بحث الامر مع رئيس الجمهورية ، وان الاخير سيطلب من بعض اعضاء القيادة الحضور الى الامانة لدراسة التخطيط من اوجهه المختلفة واعطاء القرار بشأنه .
واستعدادا للاجتماع مع القيادة ، هيأنا قاعة العرض ، واعددنا موجزا للمعطيات التي استند اليها تخطيطنا من جميع الجوانب ، والفرضيات المستقبلية المحتملة ، وملاءمة التخطيط لا حدث النظريات التخطيطية المناسبة للمجتمع البغدادي . كانت استعداداتنا للاجتماع كبيرة ، يحدونا الامل في ان الاجتماع سيقر التخطيط وسيفتح امامنا الكثير من الاعمال المستقبلية ، من اكمال تفاصيل مخططات مدينة بغداد ، وتحديد مسارات الاعمال البلدية . كنت مع امين العاصمة وجميع المهندسين والاستشاريين ومن يعنيهم الامر ننتظر على احر من الجمر وصول اعضاء القيادة . ومن المؤسف ان يصبح املنا في مهب الريح ، لعدم حضور اي عضو من اعضاء القيادة .
اشتد شعوري بعدم نجاحي بعملي ، لغياب اي تخطيط واضح يُستند اليه لتطوير المدينة بما يناسب سكانها ، وتراءت امامي الصعوبات التي ستواجهني لو جرى لي لقاء او نقاش مع الناس. ولم يكن امامي الا التفكير بتقديم استقالتي والابتعاد عن امانة العاصمة بأسرع وقت . فبدأت بتهيئة جو العمل في الامانة لتقبل فكرة استقالتي . ولكن وكما توقعت ، لم يوافق امين العاصمة على انفكاكي من وظيفتي مالم ارشح له من يقوم بعملي . رشحت المهندس حسام الدين العباسي للقيام بعملي ، وكنت مطمئنا بأنه شخص لا يعطي رأياً حاسماً ابداً , وبأنه
سيقوم بالمهمة بنحو مقبول ، وبإمكانه التعايش كموظف مع امين العاصمة بدون الالتفات او الاهتمام بوجود خطط ومناهج او بعدم وجودها .
لقد كان يوم انفكاكي من امانة العاصمة يوما صعبا ولم اكن راغبا بتقبل الفشل ، لشعوري المستمر الى اليوم بأن على الانسان ان يعمل ما في وسعه لخدمة مجتمعه ومدينته .
شاهد على العصر
صور من نشاطات وتقنيات البناء بالطابوق في بغداد كمادة انشائية معمرة ذات جماليات تختلف باختلاف اساليب النقوش الطابوقية استعملها المعاصرون كما استعملتها الحضارات العراقية القديمة في معابدها وزقوراتها وقصورها اذكرها كشاهد على العصر
مقر أمانة العاصمة القديم في محلة جديد حسن باشا حيث كان مكتبي في سنة 1968 واجهة بناية متصرفية بغداد (محافظة بغداد) . احترقت البناية ولم يتبقَ منها الا هذه الواجهة التي يعود تاريخ بنائها الى عهد والي بغداد الاخير . وكانت هذه البناية مقراً لمكتب والدي كمتصرف للواء بغداد .
فنون البناء بالطابوق في برج ساعة بغداد مجمع ابنية القشلة على اليسار والاوقاف ذات القباب وامانة بغداد على اليمين . نموذج جميل لاستعمال الطابوق كمادة معمرة
واجهة بناية القشلة من الداخل . رمز الأبهة والوقار باستعمال مواد بنائية محلية في البناء ممر جميل لبناية القشلة حيث احتوت دوائر الحكومة على مدى اكثر من قرن من الزمن
باعة عصير الرمان والبرتقال والشلغم ايام الجمع امام بناية القشلة 2015 ويلاحظ اضافة الطابق الجديد فوق البناء الاصلي بائع عصير الرمان في شارع المتنبي ايام الجمع 2015
نموذج حديث من البناء بالطابوق لمختلف الاستعمالات في القباب والزخارف في مدينة الدور – صلاح الدين قبر محمد الدري في مدينة الدور 2014 . يبين جمالية الزخارف الطابوقية المستعملة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة