لديهم الأثرياء ولدينا اللصوص

ترافق ظهور طبقة البرجوازية (أصحاب رؤوس الأموال) مع تبلور نمط جديد لتراكم الثروة وتوزيعها، ومع النمو المتعاظم لنفوذها على حساب الطبقات القديمة ونمط الإنتاج المرتبط بها، برزت ملامح العالم الجديد ومنظوماته القيمية التي انتصرت في الكثير من تشريعاتها لحقوق الإنسان وحرياته. في عالم اليوم نتعرف على غير القليل من أثريائه وهم يخصصون قسماً كبيرا من ثرواتهم لأعمال وأنشطة تكرّس لخدمة البشرية من دون تمييز عرقي أو ديني أو اجتماعي، وما سيرة أغنى رجل بيل غيتس ومشاريعه الخيرية المعروفة إلا مثال واحد في قافلة كبيرة تغذي السير على هذا الطريق النبيل. لكن أمر مالكي الثروات على غير تلك السيرة في مضاربنا المنكوبة بالمعايير المقلوبة؛ إذ ينضح إناء هذه الطبقة بنوع آخر من الاهتمامات، تتعارض تماماً وتطلع شعوبهم نحو التقدم والاستقرار والازدهار. بعد سلسلة الخيبات والهزائم في مجال التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي، قفز الى مسرح الأحداث، نوع من قراصنة المنعطفات التأريخية، شفطوا الثروات بشراهة لا مثيل لها، ليتحولوا بعد عقدين من الحروب والحصار، الى حيتان مهيمنة على ما تبقى من أنقاض الاقتصاد والمؤسسات، حيث تحول أفراد أسرة وعشيرة الطاغية المقبور ولا سيما ابنه المعاق عدي الى عراب لهذه الطبقة الطفيلية في البلد. بعد انتشال جرذهم الكبير من حفرته الأخيرة وتصفية أقطاب أسرته الأساسيين، وبسبب من هشاشة وتواطئ الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد الغنيمة الأزلية، شرعت الأبواب أمام طبقة اللصوص الجدد، وغالبيتهم من المعتاشين سابقاً على موائد تلك العصابة التي دمرت مسار التطور الطبيعي لوطن كان مترعاً بأجمل المشاريع والتطلعات المشروعة.
إن تعقّد المشهد الراهن يرجع في الكثير منه الى الدور المخرب الذي تلعبه شبكة المصالح المدعومة من هذه الطبقة الطفيلية من لصوص ما قبل “التغيير” وبعده؛ حيث تسخر تلك الثروات المسروقة لتمويل مشاريع تقسيم وشرذمة العراق، وقد نشرت الكثير من التقارير عن علاقة تلك الأموال بقوى الجريمة والإرهاب والتخلف والفساد. يكفي هذه الطبقة عاراً، أنها لم تخصص ديناراً واحداً لنصرة قضايا الوطن الاساسية من تنمية وحداثة وتضامن وطني واجتماعي، بل على العكس من ذلك، كانت وما زالت تقف خلف سلسلة المشاريع لإقامة أقاليم على أساس “الهويات القاتلة” بعيدا عن الهوية الوطنية والحضارية الجامعة. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن القسم الأعظم من تلك الأموال موجودة خارج البلد، في وقت هو بأمس الحاجة إليها من أجل النهوض وإعادة البناء. كما لا يخفى على أحد حجم الأموال التي خصصتها “طبقة اللصوص الجدد” لتمويل المشاريع والمؤسسات الإعلامية (إذاعات، فضائيات، مطبوعات، ومواقع للتواصل الاجتماعي وغيرها من منابر تقليدية وحداثوية..) لكنها جميعها تصب المزيد من الزيت على بؤر التشرذم والحرائق المتواصلة الى يومنا هذا. وسط كل هذا الكم الهائل من تلك الوسائل الإعلامية، لا يمكن العثور على واحدة تشذ عن خارطة الدمار الشامل التي أشرنا إليها. جميعها يروج للتخلف والأحقاد الصدئة ولا يطيق كل ما يمت بصلة للتعددية والحريات وبناء العراق الديمقراطي الجديد. علينا الإقرار بحقيقة هذا الدور لـ (أثريائنا اللصوص) وصعوبة تحولهم عن منهجهم التخريبي هذا، كونه ينسجم والأساليب والقيم التي اعتمدوها في شفط كل تلك الأموال، والى أن تمنحنا الأقدار الفرصة للنجاة من لعنة الرزق الريعي وثقافة الفرهدة والحوسمة، سنبقى تحت رحمة حرامية هذا العصر والزمان..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة