جاء نشر شبكة «سي إن إن» الإخبارية الاميركية لوثائق اتفاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع قطر في عامي 2013 و2014، ليكشف عن سياقات وأبعاد الأزمة الخليجية الأخيرة، إذ تتضمن الوثائق عدة دلالات ضمنية يتصدرها إقرار قطر بالاتهامات الموجهة لها من جبهة المقاطعة العربية ممثلاً في توقيع أمير دولة قطر على التعهدات بوقف التدخل في الشئون الداخلية لدول الجوار، وإنهاء دعم الدوحة للإخوان المُسلمين، ووقف الحملات العدائية لقناة «الجزيرة»، وقبولها بحق دول الخليج العربي في اتخاذ إجراءات لحماية أمنها في حالة عدم التزامها بالتعهدات.
مبادئ حسن الجوار:
تضمنت الوثائق التي كشفتها شبكة «سي إن إن» بنود «اتفاق الرياض» الذي وقعت عليه قطر في نوفمبر 2013، وهي وثيقة مكتوبة بخط اليد، وكذلك «الاتفاق التكميلي» في عام 2014، إضافة لاتفاقية «آلية تنفيذ اتفاق الرياض في عام 2013» التي صدرت عن وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، وتضمنت هذه الاتفاقات عدة مبادئ أساسية قبلتها قطر كاملة لإعادة سفراء المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومملكة البحرين للدوحة، وتمثلت أهم هذه المبادئ فيما يلي:
1- الامتناع عن التدخل: أكدت الوثائق التي تم كشفها التزام قطر بعدم التدخل في الشئون الداخلية لدول مجلس التعاون الخليجي، والكف عن كافة أنماط تهديد الأمن والاستقرار في هذه الدول التي تشمل استضافة أو تجنيس عناصر معادية وحملات الإعلام العدائي، إضافة إلى عدم إيواء أو دعم وسائل الإعلام والشخصيات والمنظمات المسيئة لدول الجوار.
2- قطع العلاقات مع الإخوان: قدمت قطر ضمن الوثائق تعهدات متعددة بقطع جميع العلاقات مع الإخوان المُسلمين والجماعات والتنظيمات المرتبطة بها والتي تهدد الأمن والاستقرار في دول مجلس التعاون الخليجي، والامتناع عن إيواء واستضافة العناصر المرتبطة بالإخوان المُسلمين.
3- دعم الاستقرار العربي: تضمنت الوثائق إقرارًا من جانب الدوحة بعدم تقديم الدعم للفصائل اليمنية التي تشكل تهديدًا للأمن الإقليمي، إضافة إلى إيقاف جميع الحملات الإعلامية ضد مصر وفي صدارتها إساءات قنوات «الجزيرة» و»الجزيرة مباشر مصر»، وعدم الإسهام في أي تهديد لأمنها واستقرارها.
4- قبول ضوابط الالتزامات: تضمنت الاتفاقات بنودًا قبلتها قطر ووقّع عليها الأمير تميم بن حمد تتضمن تأكيدًا على أن «عدم الالتزام بأي بند من بنود اتفاق الرياض وآلياته التنفيذية يُعد إخلالاً بكامل ما ورد فيهما».
كما قبلت الدوحة بحق الدول الموقِّعة على الاتفاقات باتخاذ جميع الإجراءات التي تراها لحماية أمنها في حالة عدم الالتزام ببنود الاتفاقات، وهو ما يعني ضمنًا وجود أسانيد متوافق عليها للإجراءات التي اتخذتها «جبهة دول مكافحة الإرهاب» في مواجهة قطر، وعدم التزامها بالاتفاقات سالفة الذكر.
دلالات الوثائق:
تكشف مراجعة محتوى الوثائق التي كشفتها قناة «سي إن إن» عن ثبوت عدم التزام قطر بجميع بنود الاتفاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومواصلة الدوحة للسياسات الإقليمية التي تمثل تهديدًا مباشرًا لأمن واستقرار الدول العربية، والتي تتضمن دعم التنظيمات المتطرفة وفي صدارتها جماعة الإخوان المُسلمين، واستضافة القيادات الدينية المتشددة وكوادر المعارضة السياسية، وتوظيفهم ضد مصالح الدول العربية.
إضافة إلى رعاية وتمويل الحملات الإعلامية المُسيئة لدول الجوار، سواء من خلال قنوات «الجزيرة» أو المنصات الإعلامية والمراكز البحثية التي تموّلها قطر، وفي هذا الصدد يمكن التوصل إلى عدة دلالات أساسية من خلال قراءة «وثائق الأزمة القطرية»:
1- الإقرار بالاتهامات: تضمنت الوثائق إقرارًا ضمنيًّا من جانب قطر بجميع الاتهامات الموجهة إليها من جانب دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديدًا التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، ودعم جماعة الإخوان المسلمين، واستضافة العناصر والقيادات المسيئة للدول العربية، بالإضافة إلى تهديد مصالح المُعسكر العربي في اليمن، ورعاية الحملات الإعلامية العدائية.
وتتمثل أهم دلائل هذا الإقرار في توقيع أمير دولة قطر الأمير تميم بن حمد على جميع صفحات الاتفاقات التي تم الكشف عنها، وتوقيع وزير الخارجية القطري آنذاك خالد بن محمد العطية على اتفاقية «آلية تنفيذ اتفاق الرياض في عام 2013»، كما أن صياغة بنود الاتفاقات تمت كالتزامات يُفترض أن تقبلها الدوحة أو تعهدات من جانب قطر بتعديل سياساتها الإقليمية، وهو ما يكشف عن اعتراف ضمني من جانب قطر بالاتهامات الموجهة إليها، وهو ما يؤكده قبول الدوحة أيضًا بوجود آلية لتقييم التقدم في تنفيذ تعهداتها في «اتفاق الرياض» تمثلت في اجتماعات رؤساء أجهزة الاستخبارات في دول مجلس التعاون الخليجي.
2- تأكيد شرعية المطالب: تتطابق بنود الاتفاقات التي تم نشرها -مؤخرًا- ممهورة بتوقيع أمير قطر مع قائمة المطالب الثلاثة عشر التي أصدرتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومملكة البحرين ومصر لوقف إجراءاتها الهادفة للتصدي لتهديدات سياسات قطر للأمن الإقليمي، وهو ما يعزز ما أعلنته «جبهة مكافحة الإرهاب العربية» حول وجود أسانيد ودعائم اتفاقية متعددة للإجراءات التي اتخذتها في مواجهة الدوحة.
ويستدل على ذلك بقبول وتوقيع أمير قطر على البنود المُتعلقة بضرورة الالتزام بجميع مبادئ وشروط الاتفاقات سالفة الذكر، وإقراره بحق الدول الموقِّعة على الاتفاق باتخاذ جميع الإجراءات التي تكفل حماية أمنها في حال عدم التزام قطر بالاتفاقات.
3- تهديدات التجنيس السياسي: أكدت الاتفاقات ضمنيًّا عدم اكتفاء الدوحة باستضافة وإيواء قيادات وعناصر مهدِّدة لأمن واستقرار الدول العربية، وإنما قيامها بمنحهم الجنسية القطرية، وتوظيفهم ضد مصالح دول الجوار من خلال ظهورهم المتكرر على المنصات الإعلامية القطرية، وتصريحاتهم العدائية ضد دولهم.
كما تستغل قطر هؤلاء «المُجنّسين» من شتى الدول العربية في اختراق المؤسسات والحصول على معلومات سرية عن الأوضاع السياسية والأمنية في هذه الدول، يتم توظيفها كأدوات للضغط السياسي، والاستعانة بهم في صياغة سياسات قطر الإقليمية، خاصة في بؤر الصراعات ومناطق التوتر في المنطقة العربية.
4- رعاية الإسلام السياسي: كشفت بنود الاتفاقات ضمنًا عن الأدوار القطرية في رعاية ودعم تنظيمات الإسلام السياسي، وفي صدارتها جماعة الإخوان المُسلمين، من خلال استضافة وإيواء القيادات والكوادر، بالإضافة لتمويل ودعم الجماعات والمنظمات التابعة للإخوان والمرتبطة بها في المنطقة العربية، والفروع والمؤسسات الحزبية المنبثقة عن الإخوان أو التي تتبنى فكر الإخوان المُسلمين، وهو ما يؤكد موقف «جبهة مكافحة الإرهاب العربية» حول اعتبار قطر الراعي الإقليمي الرئيسي لتنظيمات الإسلام السياسي المتطرفة في المنطقة العربية.
5- تدريب المعارضات السياسية: تضمنت وثيقة «آلية تنفيذ اتفاق الرياض في عام 2013» الموقَّعة من جانب وزير الخارجية القطري تأكيدًا على ضرورة الامتناع عن استضافة أكاديميات ومراكز تدريب المعارضة السياسية وفروع الأحزاب السياسية الخارجية التي تقوم برعاية ودعم عناصر المعارضة السياسية التي يتم توظيفها للتأثير في سياسات دول الجوار.
فعلى مدار عقود، قامت الدوحة بتمويل ورعاية مؤسسات أكاديمية ومراكز بحثية دولية وأكاديميات للتدريب السياسي وفروع لأحزاب سياسية عالمية الانتشار ضمن سياسات الترويج العالمي للدور القطري ضمن الدوائر الأكاديمية الغربية، إضافة للإسهام في تأهيل وتدريب ورعاية كوادر المعارضة السياسية في الدول العربية، وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم ضمن سياسات اختراق الداخل في الدول العربية.
6- حملات التحريض الإعلامي: كشفت «وثائق سي إن إن» عن وجود توافق إقليمي حول تهديدات شبكات الإعلام العربية والدولية المدعومة والممولة من قطر على الأمن والاستقرار الإقليمي؛ حيث تضمّن اتفاق «آلية تنفيذ اتفاق الرياض» بندًا كاملاً حول «شبكات القنوات الإعلامية المملوكة أو المدعومة بنحو مباشر أو غير مباشر» من جانب الدول الأعضاء.
ويقصد بذلك أن الإعلام التحريضي تجاه الدول العربية لا ينبع فحسب من جانب قنوات «الجزيرة» القطرية، وإنما من القنوات الإعلامية والصحف والمواقع الإخبارية والتحليلية، ومنصات الإعلام الافتراضي العربية والأجنبية التي تقوم قطر بتمويلها بصورة مباشرة وغير مباشرة لتوظيفها في مواجهة دول الجوار دون أن تكون مُنتسبة بصورة رسمية للدولة القطرية، أو يتم بثها أو إطلاقها من قطر.
ختامًا، من المرجح أن يؤدي نشر اتفاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع قطر لإحداث تحولات في مسار الأزمة القطرية، ففي مواجهة الحقائق التي تكشّفت مؤخرًا، ستتجه قطر للرد على الوثائق بالتوازي مع حملات إعلامية ضخمة من جانب المنصات الإعلامية والصحفية المدعومة من قطر لمواجهة التداعيات المُحتملة، وهو ما سيؤثر على جهود الوساطة الحالية، وقد يؤدي إلى تصاعد حدة الأزمة في الأمد المنظور.
*مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة