هل من نهاية لموت الأبناء..؟

على العكس من ناموس الحياة المعروف لدى سلالات بني آدم على مر العصور؛ حيث يموت كبار السن وفقاً لخارطة الطريق البايولوجية الموضوعة سلفاً لهم، ليودعون من قبل أبنائهم وأحفادهم وبقية معارفهم (الأصغر منهم سناً)، تحصد ماكنة الموت المسعورة منذ عقود على تضاريس هذا الوطن المنكوب (العراق) القوافل الأصغر سناً والمترعة بالحيوية والتطلعات والمشاريع (الأبناء) ليقيم لهم آباؤهم مراسم الدفن والعزاء. منذ عودة الروح لوباء “القادسيات” بداية الثمانينيات من القرن المنصرم الى لحظة عودة الفردوس المفقود “الخلافة” ومن ثم زوالها قبل أيام من عاصمتهم المزعومة الموصل، تواصل ماكنة الموت الظالمة هذه من دون أي توقف وفتور، افتراس هذا النوع من القوافل بالضد من ناموس الطبيعة والحياة ومعاييرها التي حرست وصانت التوازن الطبيعي على مر الدهور.
وأنا أعود من مجلس عزاء ابن الخال العزيز الرائد حسين، والذي استشهد بعد (إعلان النصر) بيومين (12/تموز/2017) في قاطع عمليات الموصل، وقبلها ابن الخالة النقيب نوار في قاطع عمليات حديثة (6/1/2017) كلاهما لم يتجاوزوا الرابعة والثلاثين من العمر، تاركا كل منهما زوجة وطفلين لم يتجاوز أكبرهما الخمسة أعوام، عادت بي الذاكرة الى حكاية أحد معارفنا والتي تختزن كل قسوة ومرارة عنوان مقالنا هذا (هل من نهاية لموت الأبناء؟). كان ذلك بعد ثورة الرابع عشر من تموز العام 1958، حيث رزق ذلك المناضل الوطني والذي عانى كثيرا من السجون والمطاردة والاعتقالات، بصبي بعد زوال النظام الملكي، ومن سعادته بهذين الحدثين همس بإذن ولده قائلاً: إنك محظوظ يا ولدي فقد ولدت بزمن ستتوفر فيه كل مقومات الحياة السعيدة والآمنة. لكن الأقدار الظالمة والمستمرة الى يومنا هذا رسمت لذلك الصبي طريقاً آخر، حيث التهمته قادسية ذلك المخلوق الذي انتشل مذعورا من جحره الأخير، ولم يتجاوز العقد الثالث، تاركاً والديه الهرمين يحترقان غمة وحسرة على فلذة كبدهم ومرتع آمالهم المغدور.
إن استمرار عجلة الموت على هذه الوتيرة والمنوال المغاير لسنن الطبيعة والحياة، سيخلق أوضاعاً معقدة من الصعب مواجهة إفرازاتها وتداعياتها على شتى الجبهات القيمية والنفسية. ولنا في حصاد الفصول التي شهدناها برفقة السياسات والتوجهات المتهورة والهوجاء، أمثلة قاسية على ذلك، مما يدعونا بقوة لتسليط الضوء على هذه الحرائق ومشعليها والمستثمرين في حقولها، أي تجار الحروب من شتى الرطانات والأزياء، من الذين عاشوا دائماً بمنأى عن شرور وشراهة هذه المعادلة الشاذة (الرحيل الخاطف للأبناء). كما أن التدهور الكبير للمجتمع العراقي في العقود الأخيرة اجتماعياً وقيمياً وثقافياً (عقود الحروب والحصار وحرائق ما بعد “التغيير”)، وهشاشة وضع مؤسسات الدولة وضعف سلطة القانون وعدم استقلالية القائمين عليه، وانحطاط مكانة المرأة بعد استرداد القبائل وغيرها من مؤسسات التخلف لفتنتها وتورم دورها هي وبقية مؤسسات القرون الوسطى؛ قد عقد وفاقم من هذه المشكلة وتداعياتها، والتي تحتاج الى معالجات دقيقة واهتمام بالغ، كما حصل مع غير القليل من المجتمعات والدول التي مرت بتجارب ومصائر مشابهة أو قريبة لما حصل لنا من كوارث ومحن، وهي بالتاكيد ليست من تخصص القوافل المهووسة بالرسائل الخالدة والمشيدة على المزيد من الجماجم والدم…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة