الموصليون بعد التحرير
نينوى ـ خدر خلات:
مرحلة ما بعد تنظيم داعش بالموصل اقلقت العراقيين جميعا، ساسة وقيادات واحزابا ومواطنين بسطاء يبحثون عن لقمة العيش فحسب، وبرغم مشاهد الخراب الهائلة التي نتج اكثرها بسبب اساليب التنظيم الاجرامي من تفجير المفخخات وتلغيم الازقة والمنازل، الا ان الحياة ينبغي ان تستمر بثاني اكبر مدينة عراقية، احتلها داعش لنحو 1125 يوما بالتمام والكمال ابتداءً من 10/6/2014 لغاية 10/7/2017.
“الصباح الجديد” وفي رصدها المستمر والتواصل شبه الدائم مع مسؤولين وناشطين بمحافظة نينوى في اثناء سيطرة تنظيم داعش على المدينة وخلال عمليات تحريرها، اضافة الى الفترة الوجيزة جدا من عملية الاعلان عن تحريرها رسميا، تبين لها ان هنالك تطورات تستحق الاهتمام وربما تخالف الكثير من التوقعات والسيناريوهات لمرحلة ما بعد داعش.
سياسيون موصليون “اكسباير”
اول بوادر التغييرات غير المتوقعة التي لاحت في اثناء تحرير مدينة الموصل، هو النفور والابتعاد عن تصريحات اغلب الساسة الموصليين، سواء كان ضمن الطواقم الحكومية، او يسكن في الفنادق الفارهة بعيدا عن معاناة الاهالي.
وغالبا ما قوبلت تصريحات اولئك الساسة بسخرية وازدراء في مواقع التواصل الاجتماعي، واتهام اولئك الساسة بانهم يغردون في وادٍ والاهالي في محنة ووادٍ اخر.
كما ان تصريح احد الساسة الموصليين المعروف بمولاته المتطرفة لما كان يسمى بساحات الاعتصام، وتهديده بالعودة لتلك الاساليب ما لم تقوم بغداد بتغيير سياستها تجاه “المكون السني” بالموصل، قوبلت بعاصفة من السخرية والغضب والاستهجان، حيث دعاه بعض الناشطين الموصليين الى “الكشف عن موقع وجود عائلته وفي اية دولة يتنعمون ويترفهون ويدرسون وفي الوقت نفسه يريد ان يدفع بابناء الموصل نحو محطة خراب جديدة لتحقيق مكاسب لا يستفاد منها الا امثاله من الساسة من تجار الحروب والازمات”. على وفق تعبير احد الناشطين.
كما ان حظ ساسة اخرين لم يكن افضل، وقوبلت تصريحاتهم حول الأقلمة وعقد مؤتمر سني ببغداد، باستهجان كبير، واتهمهم الموصليون بالمتاجرة بحياة ومستقبل المدينة المنكوبة لصالح دول اقليمية لا تريد الاستقرار والازدهار وعودة الامن والامان بعد نحو 14 عاما من الخراب.
طلبات الشارع الموصلي
وبرغم ان بعض الساسة الموصليين اكتفوا بالصمت لمتابعة المزاج العام ما بعد التحرير، الا ان الاهالي لم يخفوا رغباتهم، التي هي بسيطة وبريئة وليست مطاليب بقدر ما هي استحقاقات.
فالمواطن الموصلي يتقدم جدول اهتماماته الملف الامني، ثم الخدمي. وهنالك انتقاد حاد لعمل الاجهزة الامنية والروتين الذي يقيد عمليات القبض على خلايا داعش والمنتمين لهذا التنظيم الذين افلتوا بطريقة او باخرى من قبضة الامن العراقي ويتجولون في جانبي المدينة من دون حسيب او رقيب، على وفق الناشطين الموصليين، بل ان هنالك اتهامات بوجود تواطؤ في اطلاق سراح بعض المقبوض عليهم مقابل اموال طائلة.
الموصليون لم يدخروا جهدا في رفد القوات الامنية بالمعلومات عن المنتمين لداعش وعن المناصب التي شغلوها مع تفاصيل بالجرائم التي ارتكبوها، بل ان مجهولين قاموا بكتابة كلمة “دم” بصباغ احمر، على جدران منازل مشتبه بانتماء ابنائهم لداعش، في تهديد صريح وواضح لاولئك الدواعش الذين لم تطلهم يد العدالة بعد.
الخدمات الحياتية الاساسية.. ثاني مطالب الموصليين
في التريب الثاني لاهتمام الموصليين يأتي الملف الخدمي، خاصة الماء والكهرباء والمجاري وفتح الطرق وازالة الانقاض.
وبالرغم من ان شبكات الماء والكهرباء والمجاري لم تشهد اعمال صيانة لمدة 3 سنوات في اثناء سيطرة داعش على المدينة، الا ان صبر الموصليين يكاد ينفد، بسبب الحاجة الماسة لهذه الخدمات، علما ان الاعمال الحربية ومفخخات داعش اسهمت في تخريب شبكات الطاقة والماء والمجاري بنحو قد يعرقل اعادة هذه الخدمات لاشهر عديدة.
اما الانقاض التي تسد الكثير من الشوارع والافرع والازقة في جانبي المدينة وخاصة في ايمنها، فان قصص حزينة وقاسية ترتبط بهذه الانقاض، حيث يخشى الموصليون من “فاجعة” حقيقية عقب رفعها والعثور على اهلهم واحبائهم تحتها، علما ان نداءات بالبحث عن مفقودين وعائلات باكملها تكاد تشغل معظم الصفحات الموصلية في مواقع التواصل الاجتماعي.
فشل اعلام داعش لزرع الفتنة المذهبية
المراقب لما جرى بالموصل في اثناء عمليات التحرير، كان يمكنه رصد تحول لافت في تعامل الاهالي مع القوات المحررة، والعكس صحيح، حيث كان هنالك ترحيب اكثر من رائع من قبل شباب ونساء واطفال الموصل بتلك القوات، بل ان ناشطين موصليين قدموا اقتراحات عديدة لتجسيد بطولات القادة الامنيين وجنودهم الشجعان الذين حرروا المدينة، نذكر منها، المطالبة بالملابس العسكرية لابرز القادة مع “بساطيلهم” العسكرية لوضعها في متحف خاص بالمدينة، تغيير اسماء بعض شوارع المدينة ومدارسها باسماء شهداء من القوات الامنية، وغير ذلك، الامر الذي يكشف فشل اعلام داعش في زرع الفتنة والكراهية بين اهالي الموصل برغم انه لم يدخر جهدا طوال 3 سنوات في تحريض الاهالي ضد بقية ابناء الشعب العراقي في جميع وسائله الاعلامية، الاذاعية والورقية وفي خطب الجمعة او من خلال ما كان يسمى بالنقاط الاعلامية ومناشيره التي كان يصدرها باستمرار.
ومن ابرز الادلة على فشل اعلام داعش، كانت الاحتفالات العفوية لابناء الموصل ما قبل وما بعد اعلان التحرير، حيث طافت شوارعها مواكب مزينة باعلام العراق مع اهازيج وطنية تصدح من السيارات، احتفالا بالخلاص من اظلم فترة بتاريخ المدينة المعاصر.
كاظم الساهر.. لم ينجُ من النقد الموصلي
نال الفنان العراقي كاظم الساهر حصته من النقد الموصلي عقب قيامه ببث رسالة فيديو للتهنئة بتحرير مدينة الموصل ـ مسقط راسه ـ حيث اتهمه ناشطون موصليون بانه غض النظر عن محنة المدينة واهلها طوال سيطرة داعش عليها، كما سألوه عن سبب عدم تقديمه اية اغنية وطنية او لحن لاهالي مدينته او للجيش العراقي كما كان يفعل ايام النظام السابق.
مبادرات شبابية تطوعية
لم يقف شباب الموصل مكتوفي الايدي امام ما اصاب مدينتهم، فانطلقت مبادرات لافتة، وسط اصرار كبير على اعادة الحياة للمدينة المنكوبة، وتم تنظيف العديد من الكليات والمدارس وحتى الساحات العامة بمبادرات جماعية تطوعية، كما ان حملات التبرع بالدم لصالح الجرحى من القوات الامنية والمدنيين لم تتوقف، فضلا عن تطوع المئات من شباب المدينة للعمل مع المنظمات الخيرية والانسانية وايصال المساعدات الغذائية واللوجستية للاحياء الساخنة والمحررة على حد سواء.
واخر المبادرات الشبابية، كانت الدعوة لاعادة اعمار المدينة القديمة بالحجارة نفسها، حفاظا على قيمتها التراثية، والاستعانة بشركات عالمية متخصصة بهذا الشان شريطة ان يكون اكثر من 50% من العمال من اهالي المدينة، كما انطلقت مبادرة لاجراء مسابقة لكيفية اعادة بناء منارة الجامع النوري (الحدباء) باستعمال الانقاض نفسها التي نتجت عن تفجيرها من قبل عصابات داعش.
الشواخص الدينية المدمرة والجوامع
تباينت رؤى الموصليين في الاهتمام باعادة بناء الشواخص الدينية، حيث هناك من يرى ان منازل الاهالي والمدارس اكثر اهمية، فيما يعد اخرون ان تلك الشواخص تمثل جانبا مهما من هوية المدينة لا يمكن اهماله. اما بخصوص الجوامع ورجال الدين، فيرى بعض الموصليين انه ينبغي ان يضطلعوا بادوارهم في النصح والارشاد في هذه الفترة الحاسمة، لحماية الامن والامان من خلال حث الاهالي على الالتزام بالقيم الدينية والانسانية العليا، بينما يعد اخرون انه ينبغي ان يكون هنالك مبادرات لمؤسسات مدنية لملئ الفراغ، وعدم اعطاء مساحة اكبر من اللازم لرجال الدين والخطباء في توجيه الشارع الموصلي.
الموصل.. تمرض ولا تموت
يمكن القول ان مدينة الموصل اصيبت بمرض خطير، لكنها تجاوزت مرحلة الخطر، اما طريق التعافي فهو طويل نسبيا، لانه ملف معقد وشائك تتداخل به مصالح محلية واقليمية ودولية، لكن القرار الاخير سيكون بيد اهالي الموصل انفسهم، لانهم هم من دفع الضريبة الموجعة من الخراب وفقدان الاحبة، فضلا عن التهجير والنزوح وتدمير المنازل ونهب الممتلكات وغيرها من الالام التي ينبغي ان لا تتكرر، وعلى ساسة الموصل الاستفادة من اخطاء الماضي القريب والالتفات لاعمار المدينة وتعويض اهاليها بما ينصفهم عقب خروجهم من محنتهم الشديدة.