لم تسقط مدينة الموصل العريقة بيد العصابات الأكثر همجية وإجراماً في التأريخ الحديث (داعش) عبثاً، ولا أمر استسلامها السريع والخاطف لمئات من مسلحيها، يمكن إلقائه على شماعة الخيانة أو المؤامرة وغير ذلك من تعويذات العاجزين واليائسين من رحمة العقل والوجدان. جميعنا تابع ما حصل في حزيران من العام 2014 ومن التفاف واسع حول ما أعلنته تلك العصابات من عودة الفردوس المفقود (الخلافة) الى ولايتي العراق والشام، تلك الشعبية لم تنحصر في الحشود الرثة والمتخلفة بل شملت غير القليل من “النخب” المدنية والعسكرية، لا في الموصل المستباحة وحسب بل في الكثير من المناطق داخل العراق وخارجه. اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على ذلك الحدث، تحررت الموصل بعد أن فجرت فلول داعش جامع النوري ومنارته التأريخية (الحدباء) ذلك المكان الذي أعلن فيه خليفتهم المزعوم (البغدادي) خلافته. لم يتبق من المدينة العريقة ومعالمها التأريخية ومبانيها المهمة وأزقتها القديمة سوى ركام من الحجارة والأنقاض، أما الأشد فتكاً؛ فهو الكم الهائل من الضحايا والمشردين والنازحين، وتلك الصفحات المشينة من الانتهاكات بحق سكان الموصل وأطرافها من الشعوب والعقائد والثقافات العراقية الأصيلة، والتي حفرت أخاديد عميقة في نسيج المجتمع الموصلي والعراقي.
بعد كل هذا الخراب الذي لحق بالموصل وأهلها والعراقيين جميعاً؛ هل وصلنا الى العلل الحقيقية لما جرى، والعقائد والمنظومات والمصالح التي تقف خلف ذلك، أم سنهدر كل هذا الحيف والمشوار المرير وفواتيره القاسية، في الهرولة خلف النتائج العابرة وحطب مثل هذه المحطات وكومبارسها، كما حصل مراراً في تأريخنا القديم منه والحديث. للوصول الى المسؤول عما حصل من ردة حضارية وسياسية واجتماعية، في المدينة العريقة والواعدة بالشخصيات والمشاريع التي قدمتها في بداية القرن المنصرم، لا بد لنا من تسليط الاهتمام على طبيعة الصراع الذي نشب بين مشروع الحداثة والمدنية الذي مثلته شخصيات موصلية مثل محمد حديد (وزير مالية الجمهورية الأولى ووالد المعمارية الأشهر في العالم زها حديد) والزعيم السياسي عزيز شريف وشقيقه الشهيد عبد الرحيم شريف والشخصية الوطنية واليسارية الفذة عبد الرحمن القصاب، والكثير من الأحرار والمبدعين الذين وضعوا بصمات مميزة في تأريخ العراق الحديث. ذلك الصراع الذي تجلى بشكل لا مثيل له ربيع العام 1959 عندما استنفرت كل قوى الردة الاجتماعية والقيمية ضد مشروع الجمهورية الأولى وتشريعاتها الوطنية والتقدمية. بعد اغتيال الجمهورية الأولى العام 1963 انتقلت مقاليد الأمور في الموصل ليد ممثلي الثورة المضادة، من إقطاعيين وشيوخ عشائر رجعيين ومتعصبين قوميين واسلامويين وبقية التوجهات المتخمة بضيق الأفق وحطام العقائد البالية. بعد نصف قرن من ذلك الانحطاط الممنهج نضجت الموصل لصالح النسخة الأشد تخلفا وانحطاطا من الآيديولوجيات السياسية والقيمية (داعش). من دون التعرف على المراحل والمحطات المريرة للصراع، لا يمكن انتظار سوى المزيد من الهزائم والخيبات، وهذا ما تعكسه محاولات تسطيح حقيقة ما جرى في الموصل وبقية مناطق العراق، حيث تعيد القوى والشخصيات المسؤولة عما انحدرنا اليه من أوضاع كارثية، إعادة تدوير وتأهيل نفسها خلف مشاريع ما يعرف بإعادة بناء ما خلفته داعش من خراب للبشر والحجر. هذه المهمة (إعادة البناء) هي من تخصص الضد النوعي لهم، والتي ما زالت قيمهم وتقاليدهم وتضحياتهم تومض من تحت رماد هذا الخراب، لأجيال قادرة على استيعاب دروسه..
جمال جصاني
بعد خراب الموصل..!
التعليقات مغلقة