نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 11
الفصل الخامس
دراسات في سياسة الإسكان

حول العالم الى الولايات المتحدة ، الامم المتحدة لتسلم منهج الزيارة من نيويورك و جولاتي في الولايات المتحدة الاميركية , السياسات السكنية في الولايات المتحدة الاميركية ، دراسة السياسات السكنية في الدول الاسكندنافية ، اخبار ثورة البعث
حول العالم الى الولايات المتحدة
بدأت مشاريع الاسكان في العراق ، تستحوذ على اهتمام المنظمات والهيئات العالمية . وبدأت هذه الجهات بابداء التعاون مع الحكومة العراقية في شتى المجالات . ومنها الامم المتحدة التي قدمت زمالات دراسية الى وزارة الاسكان ، ضمن مناهج التطوير UNDP. وقد رُشحت في اول زمالة لها ، وامدها سنة واحدة لزيارة الولايات المتحدة الاميركية وكل من السويد والنروج والدنمارك، لدراسة سياسات الاسكان والمواد الانشائية المستخدمة في مشاريع الاسكان . ومن المهندسين الذين رشحوا بعدئذٍ ايضا لزمالات مشابهة المهندسة سهير السنوي من دائرتي والمهندس قصي مصطفى خليل من دائرة المشاريع .
بكل اهتمام شرعت بتهيئة نفسي للسفر والتمتع بالزمالة الدراسية وكنت في شوق كبير لهذه الزمالة ، لما ستضيفه اليّ من دروس وتجارب وخبرة مستمدة من تجارب الدول المتقدمة في السياسة السكنية ، وما يمكن الاستفادة منها في وضع سياسة سكنية طويلة الامد في العراق . وقد نظمت وضعي الوظيفي باختيار ماكنت اعلم انه يرغب بمكاني المهندس هادي طعمة للقيام بأعمالي وكالة طيلة فترة الزمالة . وقررت ان تكون رحلتي الى الولايات المتحدة عن طريق الشرق الاقصى ، ومن هناك الى نيويورك حيث مقر الامم المتحدة ، والمباشرة بمنهج الزمالة الدراسية . والعودة الى العراق عن طريق اوربا ، مما يمكنني ذلك من زيارة اكبر عدد من دول العالم التي لم ارها من قبل أو السفر حول العالم .
غادرت بغداد في اواخر آب 1962 الى بيروت ، ومنها الى طهران ،مستقلا الطائرة الملكية الهولندية KLM . ولأني سأطوف العالم في سفرتي هذه ، فقد منحت بطاقات مجانية من قبل شركة Thomas cook)) للإقامة في الفنادق لمدة 22 يوما على حساب الشركة، وعلى طول الطريق الى نيويورك .
مكثت في طهران ، ثلاثة ايام ، اطلعت خلالها على المتحف الامبراطوري الذي يضم كنوز العوائل التي حكمت ايران ومقتناياتها ، من تيجان ولقى وعروش وألبسة وادوات مختلفة ، وفيها من الاحجار الكريمة كالألماس واللؤلؤ والذهب ما يبهر الانسان . وزرت بعض الاسواق المتخصصة ببيع السجاد الايراني الشهير ، وتمكنت من الاطلاع في زوايا السوق الخاصة على اسلوب وضع تصاميم السجاد ، وهو عمل فني بارع للغاية ، وانواع السجاد من الكاشان والكرمان والطهران ومعالم كل نوع ورموزه . كما زرت مركزا حديثا لممارسة رياضة ( الزورخانة ) ، حيث يسمح للمشاهدين بالجلوس والاستماع الى المقامات الموسيقية المصاحبة للرياضة الشعبية القديمة في ايران .
غادرت طهران على متن الطائرة الهولندية الى بانكوك عاصمة مملكة تايلند ( اسمها القديم سيام). ووجدت هناك ، لغة مختلفة ، طبيعة مختلفة ، مجتمعاً مختلفاً بتاريخه وتراثه وتقاليده ، ومدن بأبنية تعبر عن ذلك الاختلاف مع الشرق . الطبيعة والانسان والتقاليد ، تختلف تماما عما نعرفه في الشرق الاوسط ودول اوربا التي زرناها لمرات . ففي مدينة بانكوك زرت معالمها المهمة كالقصور الملكية والمعابد الدينية المليئة بالتماثيل المكسوة بالذهب. والديانة البوذية هي الديانة السائدة في تلك المناطق ، فتجد المعابد تضم تماثيل عديدة لبوذا ، الفيلسوف الكبير والمعلم لهذه الديانة . وزرت كذلك السوق العائم ، حيث يكون لكل بائع بضاعة معينة في زورق صغير مملوء ببضاعته ، وتسير هذه الزوارق في النهر ذهابا ومجيئا . وطبيعة تلك المناطق من العالم تختلف هي الاخرى عن طبيعتنا ، فلا يكاد لاحد رؤية التربة لتغلب اللون الاخضر عليها ، والدور السكنية شيدت بطريقة تمنع تسرب المياه اليها ، لأن الامطار تتساقط في هذه المناطق بمقدار هائل لايقارن بما يسقط على بغداد .
التقيت في الفندق الذي اسكن فيه احد الضباط الفرنسيين بلباس مدني وعلمت منه انه مغادر معي الى هونك كونك لتعلم اللغة الصينية حيث يستفيد منها في عمله العسكري مستقبلاً . زرنا سوية احتفالية للرقص التايلندي في مسرح مجاور للفندق . ظهرت على خشبة المسرح احدى المسؤولات في الفرقة وبينت لنا اننا قد لا نتمتع ولا نتفهم معاني الرقص التايلندي مالم نسمع تفاسير ذلك .
شرحت لنا اولاً الآلات الموسيقية في الفرقة, واحده واحده واثناء تجربة العزف على تلك الآلة شرحت لنا اصولها وتأريخها واساليب العزف عليها ومتى . كما شرحت لنا حركات الجسد في الرقص ومعانيها وحركات اليد والاصابع واسباب تركيب اظافر طويلة على اصابع اليد اي ذلك يساعد المشاهد على ملاحظة حركة الاصابع التي لها معانٍ احياناً .
شرحت لنا الالوان واسباب ارتداء الملابس الملونة في مختلف الرقصات . كل لون يعني يوم اي ان اللون الاخضر يعني يوم الاحد والازرق يعني الاثنين وهكذا . شرحت لنا تقاليد التحية في المجتمع … فجمع الكفين امام الوجه هو تحية الصديق لصديقه وجمع اليدين امام الوجه مع الانحناء يعني تحيه للوالدين وجمع اليدين والانحناء اكثر يعني هي التحية لمقام رفيع في المجتمع واما تحية الملك فتكون بالسجود على الركبتين والزحف الى الامام عدداً من الخطوات امام الملك هي التحية المناسبة . وبتلك المفاهيم التي يحتويها ويمارسها الممثلون على المسرح تعبر عن مفاهيمها ومغزاها . سررنا جداً لهذه الدروس الممتعة التي منها تعرفنا على عادات ذلك الشعب العريق .
غادرت بعد ذلك الى سنغافورة للبقاء فيها يومين ، هذه المدينة التي قامت على جزيرة صغيرة وكونت ميناءً عظيماً في جنوب شرق آسيا ، تتسم بالنظافة وارتفاع دخل الفرد .وفيها كل شيء مخطط له ومصمم بنحو صحيح ومفيد على احسن وجه . وهي من مدن العالم المثالية والغنية ، بحكم موقعها الجغرافي والاقتصادي والسياسي . وتختلف كثيرا عن المدينة التالية التي زرتها بعدئذٍ ، وهي مدينة هونك كونك ، المستعمرة البريطانية في شرق آسيا … الكثافة السكانية مرتفعة جدا ، والفوارق الاجتماعية واضحة فيها ، الغنى الفاحش ومظاهر الراسمالية من عمارات عالية وشوارع مليئة بالاعلانات العمودية وشتى مرافق الرفاهية والمتعة . والميناء ترسو فيه مختلف السفن التجارية والسياحية والعسكرية . كما تجد زوارق السكن بنحو كبير ، حيث تسكن عليها اسر ذوي الدخل الواطئ . استقبلني مدير شركة ومبي في هونك كونك ، واطلعت معه على انواع الدور السكنية لمختلف طبقات المجتمع هناك . فمنها القصور الفخمة ذات المساحات الكبيرة والفلل المتميزة لمدراء الشركات وكبار رجال الاعمال . ومنها بيوت الصفيح لذوي الدخل القليل من الصينيين ، التي تفتقر بالمرة الى شبكة الخدمات الاساسية . واود ان اذكر هنا ، انه لاتوجد في هذا البلد اي سياسة اسكانية ، وذلك لكون الحكم مؤقتا فيه .
يختلف النظام الاقتصادي في هونك كونك تماما عن الانظمة في البلدان المحيطة فأسسه جذابة لرؤوس الاموال من جميع انحاء العالم ، فضلا عن تداولها السهل .
اعلمني زميلي من شركة ومبي .عن مهارة الخياطين للبدلات في هذه المدينة العجيبة . ولما كنت سأتجول في الولايات المتحدة شمالاً وجنوباً ولتغيرات المناخ هناك قررت ان اشتري بدلتين, توقفنا عند احد الخياطين واعلمته بطلبي ونوع البدلات التي احتاج . وما ان قررت نوع القماش الذي اخترت واتفاقي على كلفة العمل حتى بدأ شابان بأخذ القياسات لجسمي بنحو تفصيلي واستفساراتهم عن اي متطلبات خاصة . اعلمني الخياط بأنه سوف يرسل البدلات الى فندقي خلال (24) ساعة من دفع المبلغ . وبالفعل تسلمت البدلتين بعد 24 في الفندق وتمتعت بلبسها لأشهر عدة .
ما ان وصلت الى طوكيو بعد تركي هونك كونك ، وكنت احب الاطلاع على تطور هذه المدينة بعد تدميرها في الحرب العالمية الثانية ، حتى اذاعت محطة راديو القوات المسلحة الاميركية انذارا تحذر فيه قرب تعرض طوكيو الى رياح شديدة جدا Huricane ، فلم اتمكن من التنقل بعيدا عن الفندق الذي اقمت فيه . بدأت ادارات الفنادق التهيؤ لمواجهة الاعصار بوضع اكياس
الرمل امام ابوابها وشبابيكها وطوابقها الارضية ..
وكان توجيه الاذاعة بعدم الابتعاد عن مقر الاقامة ، بحيث يمكنك العودة خلال ساعة . لذلك لم أتمكن من التعرف على معالم المدينة كثيرا سوى زيارة عدد من المواقع السياحية القريبة .
لاحظت عند عملية الحجز في فنادق طوكيو ، حرص ادارة أي فندق على سؤال الشخص فيما يرغب بغرفة للسكن بالاسلوب العالمي المعروف او السكن بالاسلوب الياباني ، حيث تفرش ارض الغرفة بالحصران ، وتكون ستائرها من الحصران او القصب ، والجلوس فيها على الارض ، ويفرش فراش النوم ليلا على الارض ، ومائدة الطعام واطئة . ويذكرني هذا الاسلوب بالاسلوب المماثل المتبع في الريف العراقي ، عندما تستخدم الغرفة لمختلف فعاليات المعيشة . تمتعت بالسكن في غرفه على الطراز الياباني وتمتعت بتناول الطعام بموجب الطريقة اليابانية بصحبة احدى البنات المتخصصات Gisha .
غادرت طوكيو على طائرة الخطوط الملكية الهولندية مرة اخرى ، في الساعة العاشرة ليلا ، وكانت جزيرة هوايي HAWAIIهدفنا هذه المرة . وبعد ست ساعات من الطيران الليلي ، توقفت الطائرة للتزود بالوقود في جزيرة WAKE ISLAND ، وهي الجزيرة التي نطلق عليها اسم ( الواق واق ) في مأثوراتنا الشعبية . وفي الساعة العاشرة صباحا وصلنا مطار( هوايي ) ، وعند هبوطنا من سلم الطائرة طوقت احدى الفتيات الجميلات رقبتي بقلادة من ورد الكاردينيا العطر .
وعند تسجيل اسمي في بطاقة الفندق ، كتبتُ التاريخ 22 / 8 ، لكن موظف الاستعلامات صحح التاريخ الى 21 / 8 . استغربت.. وقلت لماذا ؟
ــ ان قدومكم من اليابان ، وكنتم قد عبرتم خط الوقت ، وهذا يعني اننا قد كسبنا يوماً في سفرتنا هذه !
بقيت في جزيرة (هوايي) اربعة ايام للاستراحة ، لطيب مناخها وجمال سواحلها البحرية وطبيعتها . ولم اتجول بعيدا عن المدينة ، وفضلت الاستلقاء على شاطئ البحر ، او السباحة في مياهه الهادئة احيانا ، والهائجة في اخرى . وحضرت بعض حفلات الرقص المقامة في ساحات المدينة ، واطلعت على بعض تقاليد سكان جزر المحيط الهادي في الرقص والملبس ، وتاثرهما بجمال الطبيعة واعتدال المناخ الذي لا تتجاوزالحرارة فيه 25-28oم طيلة ايام السنة . ولم اطلع على نمط السكن او نوع الدور السكنية في تلك الجزيرة التي لم تكن في حينها قد انضمت كاملاً الى الولايات المتحدة الاميركية .
غادرت (هوايي) … وبعد طيران لست ساعات اخرى متواصلة على الطائرة الهولندية ، تركنا الجانب الآسيوي من العالم الى الجانب الاميركي . وصلنا سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة . ومكثت في هذه الولاية الاميركية يومين ، التقيت بها بالسيد سهل السنوي وزوجته وهما صديقان عزيزان ، اذ كان يدرس هناك للحصول على شهادة الدكتوراه في الجيولوجي . لم اتجول كثيرا في سان فرانسيسكو لقصر الفترة التي مكثت في هذه المدينة الجميلة الواقعة على خليجها ، ولكن عند دخولي الى احدى المكتبات للاطلاع على كتبها ، رأيت كتابا يحمل عنوان ( بغداد على الخليج . Baghdad on the bay ) وبعد تصفحه عرفت انه يتحدث عن محاسن مدينة فرانسيسكو وجماليتها ، وان اسم بغداد هو استعارة لاسم بغداد الرشيد والف ليلة وليلة ، المعروفة تاريخيا كمركز ازدهار العلم والفن والفكر من بين مدن العالم في القرون الوسطى .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة