إنتروبي

كنت أقف في سنوات دراستي الجامعية الأولى حائراً أمام بعض الحقائق التي توصل إليها العلماء عبر معادلات رياضية بحتة. وأعجز مثل غيري من الطلبة عن إيجاد مكافئ عملي لها على الأرض. وسبب ذلك لا يعود إلى خلل أكاديمي اتسمت به جامعاتنا فحسب، بل إلى اتساع الهوة التي تفصلنا عن العالم المتقدم أيضاً!
في ما بعد عرفت أن لهذه المفاهيم امتدادات ثقافية وأدبية أيضاً. وأن ما يكتشفه العلماء من مفردات ينتقل بالتدريج إلى الدراسات الإنسانية، ويصبح بمرور الوقت موضوعاً للكثير من النقاشات والمساجلات في غير مجال من مجالات الحياة.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك المفردة المعروفة بالإنتروبي Entropy وترجمتها العربية غير الشائعة هي “الاعتلاج”! وتعني قياس مستوى الفوضى أو اللانظام في عملية تحول طاقوي مغلق! تنتقل الطاقة فيه باتجاه واحد فقط من حال النظام إلى حال الفوضى، حتى تصل العملية إلى وضع توزيع متساو في جميع أجزائها.
إن مثل هذا التعريف عصي على الفهم حقاً، إلا إذا جرت ترجمته إلى أمثلة ملموسة، مثل تحول المادة الصلبة إلى سائلة أو غازية. وفي هذا التحول يزداد الإنتروبي شيئاً فشيئاً حتى يبلغ غايته في انتهاء العملية. ففي الحال الأولى تخضع المادة لنظام صارم، لكنها في الحالين الثانيتين تدخل في طور من الهياج، يبلغ أشده عند تحولها إلى غاز، تتلاطم جزيئاته مع بعضها البعض. وإذا ما أردنا عكس الاتجاه، نحتاج إلى ذات الطاقة المهدورة في التفاعل، أي أن العملية أصبحت الآن أصعب كثيراً مما سبق.
وقد تبين أن الحياة برمتها ليست سوى نظام من أنظمة الطاقة هذه، وأن الكائنات الحية بما فيها الإنسان، تمتص الطاقة الحرة الموجودة في البيئة، لتتحول تدريجياً إلى حال اللااستقرار. وإذا ما أزمعت العودة إلى سيرتها الأولى، فإنها تحتاج إلى جهود كبيرة، وإجراءات صارمة، وأموال غزيرة، وغير ذلك من الأمور!
لقد تلقف الأدب هذه الفكرة أيضاً، وطفق يبحث عن طريقة لإعادة تشكيل الحياة الإنسانية بشكل يؤمن لها المزيد من الاستقرار، ويضمن لها الكثير من الرفاهية، وهذا هو جوهر نظرية التقدم الاجتماعي المعروفة.
ومن أجل ذلك آمنت الحداثة أن الفوضى والقلق وانعدام اليقين ليست إلا مراحل متقدمة من التحولات التي كابدتها الإنسانية، وفقدت بسببها الكثير من الطاقة، حتى كادت أن تنتهي بها إلى تفتيت الأنظمة العقلية، وإنكار المطلقات، وازدراء الفضائل. وليس ثمة سبيل للعودة إلى النظام، إلا بطاقات بديلة أو إنتروبي، تستأنف بها رحلتها الأزلية من جديد.
بل إن البعض ارتأى أن الأدب “الضار” أكثر جدوى من الأدب “المفيد” بسبب قدرته على تجاوز السلفية الفكرية والتكلس الذهني والتكرار وغير ذلك من العيوب التي تؤول إليها الحياة الأدبية بعد وقت قصير من بلوغها وضع التوازن!
من أجل تجاوز محنة الإنتروبي لا بد من ثورة دائمة غير قابلة للتوقف، تزدهر فيها المعرفة البشرية، ويتعافى فيها الوجود الإنساني. وبغير ذلك سيكون المجتمع عرضة للتدمير والخراب وقلة الحيلة. وهذا هو الإنجاز الحقيقي للعلم، على أية حال.
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة