تنوعات التأويل وجماليات الكشوف

رواية عبده خال:«ترمي بشرر»
(1-10)
ناجح المعموري

لم يرد الروائي عبده خال حيازة وظائف الحكواتي التقليدي وعلاقته مع من يستمع له ويكشف عن تفاصيل كاملة ، لها علاقة بشخوصه بقعاً مهمة في التكونات السردية بدون حراثة. وأعتقد بأن سبب ذلك مرتبط بالصدمة التي استولدتها الحكاية المؤطرة لتلك الشخصية وحصراً عيسى الرديني ومرام. صحيح أخذ كل من الاثنين مساحة واسعة في السرد وفضاءات المعنى ، لكن محاولة عبده خال متكتم قصدياً على انفتاح المعنى ، كما أعتقد بأن الخطأ والتجاوز على المحرم وانتهاك السنن الثقافية والاجتماعية والدينية ومعرفة ذلك لاحقاً وبعد فوات الأوان سبب عن الإعلان ،لأنه صادم لن يختلف عن ممارسة الخطأ في لحظته الأولى لذا كان التستر على اتساع فضاء الحكاية الخارجية بمرام على سبيل المثال له وظيفة فنية وبنائية ، كرست التمركز الحكائي المخترق في نمطية السرد التقليدي . لذا اجتهد عبده خال في تفكيك المروية الكبرى في روايته الى عدد متسع من المرويات وخلخلة انتظام زمن ألحكي والكتابة، من هنا كان البناء خاضعاً لذلك . حتى النهاية لم تكن تقليدية ، كالنهايات المألوفة في الروايات.
تحول الهامش في الرواية الى فاعل بنائي وفكري ، واستطاع عبده خال من التعامل مع الهوامش باعتبارها مراكز من خلال صلتها مع شبكة الحكايات التي صاغت الرواية . وقع عبده خال على نهاية الحكايات وسجل ذلك ،معلناً تاريخ الختم على النهاية يوم 1/1/2009، لكنه لم يؤشر اكتمال الحكايات ، بل ظلت مفتوحة على ما بعد المتن كما في البرزخ /هياكل لأحداث ميتة لم تستوعبها حياة السرد/ مقطع من جلسة سبقت كتابة هذا السرد / رصاصة مبكرة/ جزء من تقرير إخباري / نساء القصر/ ثم دخلت سنة 1428 التي حدثت فيها الأحداث العابرة والغائرة/
ما بعد المتن في الرواية متنوع وله إحالات كاشفة عن الجديد في السرد واخترق عبده خال ثبات المروي التقليدي بواسطة ملحقات السرد وتوابعه المهمشة والمثيرة ، وجعل عبده خال من روايته بجموع وقائعها وتفاصيلها الصغيرة هي المعطى السردي الفني والفكري والذي ظل خاضعاً لاستمرار السيرورة.
اختصر مابين المتن التنوعي ثنائية الثقافة البداوتية/ الصحراوية ،الحياة والموت وقدمها بحضور قوي ، تمكن منه السرد المنضبط الذي لم يتحرك نحو المجاز ، في الملاحق التكميلية /ثنائية الحياة/الموت ، وكشفت عن معلومات جديدة، فتحت سيرورة المرويات التي كان طارق فاضل مضمونها وهذا ما أشرنا له منذ البداية /الإهداء الذي يمثل نوعاً سردياً في اختراق الانتظام التقليدي ، ولأهمية طارق في المرويات والبناء السردي ،جعله عبده خال مفتاحاً للرواية ونافذة تطل منها حشود الشخوص الخارجة/ والداخلة ، مبتورة اللسان والذكورة والمصابة بالعطب على الرغم من المنشطات .
الحياة والموت هما الحدّان لملحمة الصحراء كما قال سعيد الغانمي ووجدنا كل الشخوص في رواية «ترمي بشرر» موجود على حافة الحياة والموت لحظة وحصل الطرد من الحياة، مثلما يدخل الإنسان الموت لأنه قريب منه بسبب وقوفه على الحافة.. والحافة المرتبطة بالحياة والموت هي المصير الميتافيزيقي الملاحق للإنسان، وهذا ما تبدّت عنه الرواية، واستمر هذا المصير ملاحقاً الشخوص الأخرى التي ظلت بين حافة الحياة وحافة الموت. أنها محنة الأبطال في هزائمهم المتلاحقة حتى وهم وسط قصر السيد، الهزيمة فيه لحظية، يتنفسها الرجال مع الهواء» هل غدوت قوادّاً؟ « الهزيمة المواجهة / والصاحبة للشخوص، تعايشوا معها وصارت جزء من حافة حياتهم وتظل معهم حتى لحظـة الوصول الى الموت أو حافتـه.
وأعتقد بأن الموت خلاص لكثير من الشخوص في الرواية، وهذا ما أشارت له التفاصيل البنائية، الموت الاجتماعي قد حلّ منذ لحظة دخول الرجال الى القصر.. الموت هو المطارد والحاضر وتحققه إنقاذ للشخوص التي انسفحت خاصياتها تماماً ولم يعد بالإمكان الاحتفاظ بشيء لائق بعد السقوط الهائل الذي جعل الواحد منهم يتعرف على أكذوبة الجنة الملتمعة ليلاً بالمصابيح التي لم يستطع واحد من الصبيان ضبط عددها، وهذا الانشغال والعلاقة بالمصابيح كافية لتبيان ما كان عليه حي الحفرة والذي لم يحافظ على كيانه مع كل ما كان سائداً فيه وسيتعرض للإزالة لأن المؤسسة السرية في القصر وتوابعها قررت إزالته والانتهاء من رموزه الدالة عليه والموجودة في القصر والتي هربت وتمردت أخرى وتعرضت للقتل. لابد من الشطب على حي الحفرة والانتهاء من تاريخه المرتبط بثقافة الصحراء. ولم يتضح موقف سكان الحي.. فالحضارة آتية زاحفة محمولة مع النفط والقصور الشامخة وهيمنة الوجود المتنفذة فيها، لكنها تحمل عيبها وندرة الانحراف منذ طفولتها المبكرة.
لم تكن الجنة مثلما توقعها الفتيان والشباب من خارجها بل هي ذات صورة خارج التوقع وصارت بأذهان الشباب في الداخل جنة موت» والموت هو الوسيلة الوحيدة لمقاومة الموت واستمرار الحياة والشخصية موجودة بلا خيار آخر سوى الموت، ليس في الحرب وحدها وحسب، بل في كل مكان، لأنها أصلاً تعيش على ظرف الحياة، وتفكر دائماً بواجهة الاحتمالات القصوى/ سعيد الغانمي/ ملحمة الحدود القصوى/ ن.م/ ص15. هذه هي شخصية البدوي وخصائصها كما أشار لها الناقد الغانمي واستفادة من هذا الرأي فأن لحظات العلاقة مع الفردوس مستمرة تخيلياً ،وتتضح تحققات هذا لفردوس من خلال الماء والعشب بمعنى الوفرة هي فردوس البدوي /الصحراوي.
الموت وسط القصر إحساس حاضر في أعماق الشخوص حتى غير البدوية ، مثل جوزيف عصام الذي وجد ضرورة الاعتراف ، في وسط القصر بعد ما أحس بانهيارات نفسية تجتاحه، لابد من التطهر /الاعتراف والاستراحة من التابو والخطأ «لم أكن معه مباعداً بين الأديان وعندما وجد الطريق سالكاً احتاج لمن يتطهر بين يديه ،كنت له الحافظة التي يضع فيها نواقصه البشرية، ذات حزن ، انقلب السحر على الساحر فأجلسني يحدثني عن معشوقته التي هرب منها ، فتاة صغيرة نسي أن يصف جمالها ، وتذكر رقتها وعذوبتها ،عشقها خالصة، وأبحر فيها. حبيبي كشجرة
ولم يكن بحاجة إلا لعذوبتها ، يمرر صفاء تلك الروح الحلوة لداخله المر /ص238.
ارتكب جوزيف عصام عصياناً واخترق المحرم وحاول التطهر منه ولم يجد من يعترف أمامه غير طارق فاضل «أيقظته جمرة الدين ، وحرض نفسه على الهرب منها ومن عشقه، هذا الهروب سببه أن الفتاة كانت ابنة أخته ! كل منا له سقطة عميقة لا يعرف قرارها إلا هو /ص23
قال طارق مؤكداً على أن ممارسة الرذيلة والسقطة خاضعة زمنياً وكأنه يريد أن يؤكد الأفراد لديهم إحساس بزمنية الفعل والممارسة ليدفع بذلك ما هو مقترن بموقف الصحراوي من الزمن وتحمل كل رذيلة معها ضغطاً، لا بل ضغوطاً نفسية مؤذية ، وتظل هذه السقطة ذات حاكمية على الأشياء ، وتتبدل المواقف والرؤى (ويغو حكمك الصائب حكماً خاطئاً، عندها يكون الفعل ، أو الحدث قد رحل في زمنه فلا تقدر على التصويب) /ص238 .ينطوي رأي طارق هذا على عدم أهمية الاعتراف المسيحي الذي لا يحقق التطهر الحقيقي والتخلص من الخطية التي مارسها جوزيف عصام والتي ستبدو لاحقاً أقل خرقاً للمحرم من الذي زاوله طارق وتعرف في اللحظة التي سعى بها الى قبر أمه والاعتذار من خطأ محاولة التخلص من خطأ يمكن التملص منه يأخذه نحو سقطة تتكشف له تدريجياً وببطء ، حتى وجد نفسه في يوم من الأيام بمواجهة تراجيدية مع السقطة /والخطية وارتضى الاعتراف لا بوصفه تطهيراً مسيحياً مع تجاوزه قليلاً مع آراء ومفاهيم جوزيف.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة