د.عبد العظيم السلطاني
قلت في سرّي: أنْ تدعوك قصيدةً أنيقة النسج طيّبة النوايا إلى كتابة مقال عنها ولا تستجيب، تكون كَمَن لا يردّ تحية بريئة تلقيها عليه سيدة أنيقة جميلة. هذا ما حدّثت نفسي به حين قرأتُ قصيدة الشاعر رياض الغريب ((بيادر البلاد))، التي أهداها إلى صديقه قائلا: ((إلى عمّار المسعودي وهو يزرع بهجاته)). وأرفق مع نص القصيدة صورة لصديقه الشاعر الدكتور عمّار المسعودي، بسحنته السمراء، مرتديا دشداشة بيضاء ويبذر البذار في أرض بستانه. فقد زرعت هذه القصيدة بهجة في نفسي، واستمتعت بها وحييتها. ثم سألت نفسي ما الذي دعاني إلى كل هذا؟!.
قرأت القصيدة فوجدت لغتها قادرة على إحداث التأثير، فهي قريبة من النفس ويومية كالخبز. ومسبوكة بعفوية تحاكي حال الريفي، الذي تصف لحظته وتحكي قصته، وقد ((تعلق بحبل البياض ولوح للسمرة أن اقتربي))، فحوّل تناقض البياض والسواد إلى أُلْفةٍ. وهو الطيّب الذي يدعو قسوة المناجل لتجزّ رقاب السنابل، لا لأنه قاسٍ، بل لتُفضي هذه القسوة إلى خبز للفقراء: ((لوح للمناجل قائلا احصدي سنابل البلاد واطعمي الفقراء من حنطتي وشعيري وما تيسر من قصائدي))، ومناجِلُه تحصد ((سنابل البلاد)) كلّها لأنّه ابن البلاد كلّها، ومعنيّ بأن يكون مصدر الخبز ليُطعم بطون الفقراء، ومصدر القصيدة ليطعم الأرواح ،أيضا. يطعمها شعرا، ولكن أيّ شعر؟! إنّه نص يخاطب الكلّ ومنبثق من روح هذا الكلّ، وليس نص شاعر رومانسي فردي القصد، بل نص الواقع والحياة، ((لم يترك النص وحيدا، علمه أن يكون حشدا من القرى))، علّمه ليكون نصا منتميا متجذرا مُدافا بطين القرى.
ولأنّ هذا الريفي منذور لهذا ((الكلّ)) وليس لنفسه، ولأنّه غير منشغل برومانسيته الفردية، لذا لا يهتم كثيرا بألوان الورد وتفاصيله. فشغله الشاغل أن يصنع حياة، ويطعم الجياع كلّهم، من بشر وطير، مشغول بـ ((كيف يوصل حبة لعصفور جائع في الظهيرة))، وكيف يسقي طير فاخِتَةٍ ((من ماء القلب)). إنّه الإنسان الذي يجمع الواقع بالحلم، ليكون الأنموذج الذي لم يسحقه إسفلت المدينة.
هذه قصيدة تحوّل فيها غرض ((المديح)) التقليدي إلى عالم آخر، عالم يسجّل لحظة وجود مشترك باذخ العطاء، يتجاوز علاقة الأفراد وحدود الصداقة إلى موقف وجودي ثقافي بين عالمين: ريف ومدينة. فابن المدينة يتحسّس براءة ريفيّ قشّر تهمة الجهل الملصقة به، وأبقى أصالته وانتماءه جوهرا، فارتقى ليكون مثالا في قصيدة، يكتبها ابن المدينة. ويضمّنها اعتذار المدينة من ((ابن القرية تعلم أن يكتب الشعر على الأكياس المرمية في الشوارع، على الفائض من ترف المدينة)).ليُعاد للثنائية معنى آخر: فمن تقصيه المدينة عنها يعود ليصنع حياة فقراء البلاد كلّها، مانحا الخبز والقصائد.
جاءت صور القصيدة كالطبيعة وبراءة الريف والريفي الذي تّرْسِم صورته وعلاقته بالواقع. فكانت الصور بعيدة عن التعقيد قريبة من روح الشعر في طوره الطفولي الشفيف. فلا تكبح سيرورة الاستمتاع ولا توقف تدافع دهشة التلقّي. صور من الواقع لكنها قريبة من نبض الشعر، فـالشمس ((لونها المؤدي إلى الحرية في القرى))، وابن القرية هذا ((يزرع بهجاته)) و ((كل الألوان لديه تؤدي إلى الحرية)).
ثم حدّثت نفسي: ما الذي دعاني إلى تحية هذه القصيدة غير لغتها وطبيعة صورها ورسالتها الثقافية؟!. دعاني إلى تحيّتها وحدة موضوعها، ووحدة عاطفتها. فلم تكن لوحة كبيرة تُحشر فيها موضوعات شتى. ولم تكن معرضا لصور متنوعة العوالم مشتتة الأهداف، لا يجمعها سوى صفحة الورقة. وهي ليست أرضا شاسعة لعواطف سائلة. إنّها قصيدة نَضَحَت من عاطفة متماسكة مركزة في موضوع محدّد العوالم. وهي محكومة برؤية تمشي بها إلى مستقر.
ثم هي بعد هذا وذاك قصيدة اختارت لنفسها ما يناسبها من طول، فلم تكن ومضة تضيء لتنطفئ، فتكون حياتها أقصر من أن تستوعب الموضوع وأضيق من أن تحتضن العاطفة. ولكنها ،أيضا، لم تكن فاحشة الطول فتملّها الأعين والنفوس التي تعيش في هذا الزمن، حيث إيقاعه السريع، ونشره المتدافع، ومشاغله الكثيرة، التي تكدّر المزاج وتضيّق الصدور. إنّها القصيدة التي اختارت بثقة وقصد طريقها الوسط: بين الطول والقصر، بين السهولة والترفّع، بين حيوية الصورة وبساطتها. لم تسرف في التقرير ولم تسرف في الترميز والتكثيف. اختارت طريقا وسطا فكانت رغيف خبز للجائعين إلى شعر الحياة.