قل لي ما الذي يشغلك..؟

ها نحن في السنة الخامسة عشرة من “التغيير” أو ما يعرف بالمرحلة الانتقالية، والتي يفترض أن ننتقل من خلالها الى الديمقراطية والتنمية والأمن والاستقرار، بعد عقود من الهيمنة المطلقة لأحد أبشع الأنظمة التوليتارية في تأريخ المنطقة الحديث؛ لكن جميع المعطيات تشير الى أننا لم نوفق، لا في وضع أسس وقواعد راسخة لذلك التحول وحسب بل لم يظهر وسط كل ذلك الفشل في شتى الجبهات؛ أي بصيص أمل لبدائل جادة تنتشلنا من هذه القسمة العاثرة. عند النبش قليلاً بالعلل التي تقف خلف ذلك العجز والهوان، نجدها تتوزع بين حزمة من العوامل والأسباب، لكننا سنكتفي اليوم بتسليط الضوء على ما أشرنا إليه في عنوان العمود: قل لي ما الذي يشغلك..؟
منذ أكثر من نصف قرن وسكان هذا الوطن المنكوب، لم تفارقهم لعنة الحروب والنزاعات العبثية، عاقبة كل ذلك هي فقدانهم لغالبية ما كانوا يملكون من حقوق للعيش الحر الكريم. بعد زوال النظام المباد، ورثنا حطام من البشر والقيم والشجر والحجر، وكنا بأمس الحاجة لوعي مخاطر وتحديات ذلك الخراب، لكن وكما يقول المثل (تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن) لأن من تلقف “الغنيمة الأزلية” من كتل وزعامات ورؤى كانت لهم اهتماماتهم المغايرة لمشروع إعادة بناء الدولة الحديثة وتشريعاتها ومؤسساتها التي تعيد للعراق هويته ومكانته اللائقة. لذلك لم يضيعوا الوقت والإمكانات والهمم جزافاً، بل سارعوا لإشغال عيال الله بواجباتهم ومسؤولياتهم الجديدة بوصفهم جزء من كانتونات (مكونات) لها سلّم أولويات واهتمامات، تعرفنا عليها بالتفصيل الممل مع تسلّق شبح أول دبابة أميركية لأحد جسور بغداد في 9/4/2003. أولويات وهموم تقبع في قعر قائمتها قضايا التنمية والتعليم والخدمات والتشريعات المناصرة لحقوق الإنسان وكرامته وحرياته، وإن تم التطرق لها، فهو من باب رفع العتب أمام المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية. حشود المكونات تستثيرها الخطابات الشعبوية التي ألحقت أبلغ الضرر بحاضر ومستقبل شعوب هذا الوطن المنكوب، ومن خلال عمل ممنهج يتم فيه استنزاف حماستها ومواردها وطاقاتها، في نشاطات ليست عقيمة وحسب بل كرست غالبيتها حالة الانحطاط والتشرذم بين صفوف العراقيين من شتى الرطانات والأزياء.
ممثلي هذه الطبقة السياسية (من الفاو لزاخو) يتحملون وزر بقاء وديمومة هذا الإرث من الأولويات القاتلة (الطائفية والإثنية والقبلية وسكراب الآيديولوجيات) وهم يشتركون جميعاً بجريمة تسميم العقل الجمعي ودفع الحشود الى حتفها، كما حصل زمن النظام المباد وولج الى أطوار لا تقل بؤساً بعد زواله. ملايين من الضحايا والمشردين والنازجين والمهاجرين، رافق كل ذلك سجل جديد ومبتكر من الإجرام والانتهاكات لحقوق سكانه ولا سيما شعوبه المسالمة من مسيحيين ويزيديين وشبك وصابئة وما تبقى من سكانه الأصليين، مع هدم شبه كامل لمدنهم ومناطق سكناهم، انتهاكات لا مثيل لها لم تجد من يدوّنها كما تستحق، كل هذا مهدد بالانضمام الى إرثنا العتيد في مجال النسيان وتعويذته المجربة (عفا الله عما سلف)؛ إن لم نجد سبيلاً للنجاة من قبضة الغيبوبة الشاملة هذه واغترابنا عن المخاطر والتحديات الواقعية التي تواجهنا. متى ما تمكنا من كنس هذا الطفح من الهموم التي شغلتنا، وشرعنا أبواب عقولنا وضمائرنا لأولويات البناء والتنمية والخدمات والصحة والتعليم، عند ذلك ستتوفر الفرصة لانتشال مشحوفنا المشترك من هذا النحس العضال المحيط به…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة