صفاء ذياب.. شاعر الفوتوغرافيا ومكتشف رمزية المهمل وشعرية التفاصيل

(5-5)

ناجح المعموري

كل هذا غائب ومعطل لان الطفل غير محمي ، متسرب من المدرسة ، توظف طاقته الغضة بعمل شاق ولم تستطع الثقافة الإسلامية الانتباه عبر مؤسساتها السياسية من أنصاف شريحة واسعة من المجتمع وهم الأطفال . وأخذتني هذه الصورة الذكية ببساطتها وعمقها نحو اهتمامات الفوتغراف العراقي بالعمل ومشاركة الأطفال فيه واعتقد بان تجربة في هذا المجال هو ما أنجزه الفنان علي طالب في معرضه الأخير عن العربات كذلك تمركز هذه لظاهرة في فوتغرافيات كثيرة وعلى سبيل المثال وليس الحصر فؤاد شاكر وناصر عساف وخالد خزعل وعماد مصطفى ، كما لفتت انتباهي لقطة الاستراحة والعربات بعد انتهاء فرص العمل واصطفت ثلاثة عربات اثنتان متراكبان وواحدة منفردة ، ربما الصدفة التي جعلتها وحيدة / معزولة . وصاغت الاثنتان تراكما فوق بعضهما لمتطلبات الأمانة والمحافظة عليهما كل العربات تمنح أجسادها استراحة بعد تضاءل حركة السوق .
وأكثر لقطات اليومي المعيشي ، صورة العربة الكبيرة التي يجرها الحصان في شارع أكلت بعضاً منه الصيانات الكونكريتية وكان زقاقاً ضيقاً ، ملتوياً استعمرته النفايات والازبال والمثير في هذه الصورة المكان الحيوي الغائب وراء السياج العالي ، لكن حيويته لم تشفع له كي يكون نظيفاً . تضيء هذه الصورة إشكالية الأطفال وفرص العمل مرة ثانية الطفل الزاهي بالأحمر المشع ، لم يتركه العمل هكذا ، والمهمة الموكلة له لا تناسبه ابدأ . صعبة ومعقدة حتى في تفاصيلها ـ على سبيل المثال ـ لا يقوي على حمل قنينة الغاز الى دار أو محل ، فكيف به بعد سقوط الحصان منطرحاً وسط أكوام من الزبالة والقاذورات لتظعنا الصورة أمام صدمة الحاضر وقسوته بخلق التضادات القهرية لأحلام الإنسان وعلاقته بالعمل . الطفل ، كأنه يتوسل بالحصان وهو يلامس الرابط الخشبي ليستنهضه ، كي يعاود حركته أو لأمر صعب ولا يعرف الطفل آلية استعادة حصانه للحركة ، ولحظة شعوره بالعجز حدق بعيداً والرسالة في نظرته معلومة ، المرسل عاجز لان المرسل إليه غير موجود ، والرسالة بينه في نظراته المحتارة والمتوسلة . لان فرصة العمل الموكولة له غير متناسبة مع عمره وجسمه ، والفجيعة رضا الحصان واستسلامه للتعب والعجز عن الحركة والنهوض لان أحماله ثقيلة ، ظل بفجيعته في مشهد مثير للحزن ، لان الحصان العربي وقع في محيط للنفايات وانسدح فوقها . حتى غادر الحصان مروياته التي أنتجها الجماعات المتخيلة منذ قرون عديدة . ويبدو بان مثل تلك السرديات تتعطل في أزمنة الموت والفناء المفاجئ والقتل والحرائق المدمرة ، كل شيء تغير عن ذاك الزمان وصار للحصان دور أخر متدنياً ، وانفك عن زهو سرديات البطولة العربية أيام زمان . وقدمت اللقطة الحصان يائساً وعاطلاً ولم تبدو عليه أي علامة دالة على الاحتمال .
أما الصورة الأكثر أثارة للتأمل ، فهي صورة الرجل كبير السن بنظارتيه الواسعتين مع نحافة جسمه . لديه رغبة واضحة وقوية للعمل بوصفه خياطاً اختار مكانه بفضاء خارجي . تحتاج مثل هذه المهنة مهارات عديدة ، لعل أهمها قوة النظر المؤهلة له لاستكمال العمل ، ان وجود النظارتين الطبيتين وغير الجاهزة ، لان حجمها دال عليها ، يعني محاولة ترميم النظر بها . والخياطة تحتاج دقة النظر ، لمساعدة في إدخال الخيط في سم الإبرة ومعاينة استقامة نزول الإبرة على حافة القماش .
لكن الصورة بددت المخاوف والحذر ، لان الرجل يحاول إدخال الخيط في ثقب الإبرة واعتقد بأنه قادر على ذلك ، كما ان هذه الصورة فيها المجاز الدال على الايروتيكية.
تفضي الصورة الى مجال العمل اليومي وقداسته ، لوجود ضرورات جعلت منه هكذا ، بالنسبة للرجل الخياط وغيره من ممارسي الحرف ومزاولي المهن الذين لابد وان يتعاطوا مع حرفهم ومهنهم حتى يوفروا لأنفسهم ما هم بحاجة إليه مع عوائالهم . يكشف العمل نوعاً من ثقافة خاصة لها تراكم طويل منحت العامل الحر نوعاً من الخبرة وجعلت منه خبيراً في وسطه ، ومثل هذا الأنموذج يمثل طاقة نادرة في الاستشارة . كما أن استمرار العلاقة بالمهنة ينطوي على شكل من أشكال الارتباط بالحياة العامة والخاصة لان المحيط المهني المتعايش فيه ومعه ، لا يمكن الانفكاك عنه ، حتى في زمن الشيخوخة والعجز ويظل مرتبطاً بالمحيط بزيارات سريعة ، يساعده الأبناء على تأمينها بفترات معينة ، بمعنى يبقى هذا العامل مرتبطاً بتاريخ المجال وذاكرة المهنة والتغني بأمجاد لما قبل والتنبيه لمروياتهم التي صاغت هوية الفرد الخاصة بفاعليته اليومية . وكانت هذه الصورة مماثلة لغيرها من الفوتغرايات المعزولة عن محيطها المرجعي ، لان صفاء ذياب يستل جوهر صورته منفرداً وحيداً وبعيداً عن أي شكل من أشكال المرجعيات التي ربما تشتت المتلقي في النظر إليها . وهذه واحدة من مميزات هذه التجربة الفنية ، وتمثل خصوصية بنائية . لان الفنان ذياب يعرف تماماً من أن المحيط له سلطة ثقافية كبرى ، وحتى اجتماعية وسياسية ، لهذا يزاول العزل البيّن لها ويقدم جوهر الصورة وحده ، مكتنزاً بما سيفيض علينا من معان .
يشترك كل الفنانين الفوتوغرافيين والتشكيليين بتصوير الأحياء والأزقة والبيوت ، لكننا لابد ان نتعامل مع مثل هذا لا بوصفه ذاكرة وتاريخ من مرويات فيه ما نقلته لنا وقالته ، هذا رأي تعارفنا عليه وارتضينا ذلك نتاجاً لمجال اجتماعي وثقافي ، ظل مهيمناً لعشرات السنين ، لكننا عندما نرى مثل تلك الحضورات في الفوتغرافيا ، علينا التعامل معها قياساً بالسائد المدمر / أو الملغي عن التبادل والوظائف اليومية / والأخر المهدد ، بأنه أكثر تباهياً وجمالاً وتوفر من خلال فضائها سلماً وأمانا للمرور عبرها جلس الخياط على كرسيه بثقة تامة واحتضن جسد الماكينة مكتفياً بنصفه الأيسر مشحوناً بالرغبة ومتوتراً لبدء يوم جديد . في العمل لملم أطراف غترته البيضاء فوق رأسه وانكشف وجهه وتحديقه عينيه وهو يحاول إبلاج الخيط في سم الإبرة ويبدو بأنه يوظف يده اليسرى بالعمل ويكثر من استعمالها ، انه خياط أعسر ، كله في الصورة . انه مركزها وهو يستحق ، لأنه مستمر بحركته اليومية ، المألوفة للآخرين والمعروفة لهم ولغيرهم ، كما يبدو بأنه جزء من المكان وتاريخه .
إن تكرر اختيار الشاعر والفنان صفاء ذياب لتفصيل بسيط وصغير ويمثل شيئاً معيوشاً ومرئياً لعشرات السنين ليشير إلى أن الفوتغرافي فاعل وقادر على الإزالة لكل ما يعتقد معناها ظاهراً أو غير منتج للدلالة وكأنه بعيد بالفوتغراف مقولة جاك دريدا من أن الكتابة خاضعة للمحو لأنها لا تعطي معناها كاملاً . من هنا كان إلحاحه واضحاً ودقيقاً على ما هو راشح بالضغوط الاجتماعية والمعبر عنها بالسلاسل والأقفال العديدة ، وأيضاً بالمدورة الحديدية النابت مسمارها عميقاً في الجدار على الرغم من أن هذه الصورة التي ربما لا تعني أحداً لكنها ذات معنى خاص بالعطل وهي دائماً ما يضعها الباعة كبار السن في محلاتهم للاستعانة بها عند الحاجة للوقوف ، إنها مانحة لقوة يحتاجها الكائن في مزاولة وظيفته التجارية . مع إظفافها بالإشارة الشفرية لوجود سلطة من نوع ما . الفنان صفاء يزيل ما هو غير ضروري ويكشط غير المؤسس لنظام فوتغرافي له قصدية خاصة . من هنا كانت الملفات الفوتغرافية موزعة على عدد كبير من الوحدات الصورية المكونة لنظام واحد ، يوفر خلاصة بالذي انشغل به وبحث عنه في داخله وتوصل إليه متوفراً في المعيوش الأقفال / والأذرع الحديدية الممتدة ساندة لإغلاق الباب الخشبي وقد ركزت الكاميرا على تخدشات هذه الأذرع وما فعلته بالأسطح الخشبية تآكلاً وكشطاً ما هي إلا لسان الصورة وبلاغتها الخاصة بتاريخية نوع مجازي للسلطة المهيمنة ، مثلما تضيء ملوناته كثافة الصدأ والتصدعات الشفافة المتناظرة مع هروش السطح الخشب بتأثير حركة الذراع الحديدي أو القفل الظخم بحيث تتماهى هذه الخدوش مع ما يسميه النجارون بالدمار أو الشعيرات الظاهرة من سطح الخشبي . لكن روح الخشب الظاهرة وهي من روح عجينتها لحظة الإنتاج ، ليست مثل التي أنتجتها حركة القطع الحديدية وضغطها المتكرر على السطح الأملس ، تظل شعيرات الخشب أكثر جمالاً لأنه من مكونات روح الشيء ومغايرة لقسوة الزمن من خلال تحريك الضوابط الأقفالية التي لم يسجلها الفنان ألا وهي في قمة تحكمها وإعلان سلطتها المعلنة عن حضورها للحفاظ على ما لا نعرفه في الداخل / ووراء الباب هنا تبرز إشكالية اللامرئي وهو من مهام الصورة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة