هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 8
الفصل الرابع
التدريب على المشاريع الكبرى في المملكة المتحدة
عبدالكريم قاسم ينهي عقد مؤسسة دوكسيادس
وهكذا .. تظافرت جهتان لإيفادي الى المملكة المتحدة للتدريب مع شركة جورج ومبي على وضع تصاميم أعمال الهندسة المدنية الكبرى ، لإكمال مسيرة التحصيل العلمي وخدمة بلدي خدمة تتناسب وحركة النهضة العمرانية التي شهدها عقد الخمسينات ، وانبثاق مجلس الاعمار الذي عهد اليه العديد من مشاريع تلك النهضة ، وهو الجهة الاولى التي رعت ايفادي وفق خطته في ارسال المهندسين للحصول على الخبرة والدراسة ، اما الجهة الثانية فقد كان المجلس الثقافي البريطاني لحساب اتحاد الصناعات البريطانية .
في ايلول 1955 وبكل شوق واندفاع ، سافرت بواسطة سيارات شركة ( نيرن) ، عبر الطريق البري بين بغداد ، الشام ، بيروت ، وهي سيارات طويلة وكراسيها مريحة نسبيا ، كما تتوفر فيها وسائل الراحة الاخرى ، كان الطريق من مدينة الرمادي الى الشام غير معبد . ثم انتقلنا الى سيارة اصغر اوصلتنا الى بيروت ، ومن هناك استقللنا الباخرة ( اسبيريا ) المتجهة الى اوروبا .
على سطح الباخرة تعرفت على العديد من الاشخاص من جنسيات مختلفة
، ومنهم عراقي كان يرافق جدته لعلاج عينيها . وبعد مسيرة ليلة كاملة
وصلت الباخرة الى ميناء الاسكندرية ، وبعد ثلاثة ايام عبرت الباخرة البحر الابيض المتوسط وسط اجواء مناخية غير مستقرة ، فوصلنا جزيرة صقلية ، ونزلنا من الباخرة لزيارة المدينة والتجول في انحائها ، وقد زرنا احد الكهوف الكبيرة جدا ، كان مستغلا في العهد الروماني كسجن سياسي ، وعرفت هناك ان من خواص الكهف الفيزيائية ان تنعكس الاصوات والموجات الصوتية عبر جدرانه ، بحيث يستطيع سماعها من كان جالسا على الجبل من خلال الفجوات وهكذا كان يعمل القيصر في الجلوس داخل غرفة فوق الجبل لسماع كلام معارضيه يصل اليه عبر فتحه في الصخور تسهل نقل الصوت .
لقد اعطتني الزيارة لهذا الكهف انطباعا عن امكانية استغلال التكوينات الطبيعية لإغراض خدمة الانسان . ومن جزيرة صقلية صعدنا بالباخرة الى نابولي ، ثم بالقطار الى
روما . وقد انتهزت الفرصة خلال ايام بقائي في المدن الإيطاليه فزرت عددا من المتاحف في روما وفلورنسه وميلانو ، واطلعت على الفنون الايطالية التاريخية العظيمة والمعالم الجميلة لتلك المدن .
كان القطار الوسيلة المفضلة بين المدن الاوربية ، ولم يكن السفر بالطائرات بينها متيسرا كما هو الحال في يومنا . ومن مدينة ميلانو سافرت بالقطار الى العاصمة الفرنسية باريس ، فمكثت بها ثلاثة ايام ، زرت خلالها اهم معالم هذه المدينة الكبيرة ، واهم ما زرته متحف اللوفر والحي اللاتيني ، وقد بهرت ببرج ايفل المَعلم الهندسي الرائع ، مندهشا من فكرته التصميمية والانشائية . ومن مدينة باريس وعبر مضيق ( المانش ) انتقلت بالعبَارة الى الجانب الانكليزي ، ثم انتقلت بالقطار الى محطة فكتوريا في لندن .
ان اول ما ذهبت اليه عند وصولي لندن ، هو اتحاد الصناعات البريطانية ، فالتقيت هناك احد المسؤولين فيه ، فوجهني بشكل عام حول منهاج تدريبي ودراستي ومخصصاتي . واعطاني بعض النصح والتوجيهات للتأقلم مع الحياة في مدينة لندن ، وكانت توجه لي الدعوات للقاء المسؤولين البريطانيين في اتحاد الصناعات ، وبالأخص عند زيارة المسؤولين العراقيين الكبار لمدينة لندن . وتكونت عندي مع مرور الايام علاقات مع عدد من الصناعيين البريطانيين ، و صداقات مهمة مع زملائي المهندسين العراقيين استمرت طيلة حياتنا العملية فيما بعد ، ومن هؤلاء رمزي الريحاني وشهاب احمد الصافي وفليح حسن و رشيد الرفاعي ، وقد قضيت معهم اجمل الاوقات المليئة بالنشاط والتزود بالخبرات العلمية والهندسية ، وكان هدفنا المشترك هو العودة الى العراق وخدمته الخدمة المثلى .
وكانت شركة جورج ومبي ، وهي من كبريات الشركات البريطانية العاملة في انحاء مختلفة من العالم ، قد نسبت للعمل والتدريب فيها . وكانت هذه الشركة تنفذ مشاريع هندسية كبيرة في انحاء العالم منها ميناء في امريكا الجنوبية ، ومحطة كهرباء كبيرة في مدينة هونك كونك ومشروع اسكان البصرة (1000 دار ) في العراق والخليج العربي ، فضلا عن مشاريع سكنية في بريطانيا حيث تعتبر هي اكبر شركة لبناء المساكن في بريطانيا في ذلك الوقت .
وبدأت عملي في قسم المشاريع الكبرى في شركة ومبي ، وكان يعمل في هذا القسم خمسون مهندسا تقريبا ، بالإضافة الى الرسامين والمساحين وغيرهم . وفي البدء اصطحبني رئيس الشعبة التي اعمل بها الى غرفة الخرائط ، وطلب مني تنظيم الخرائط حسب مشاريعها وارقامها في تلك الغرفة التي تضم نحو عشرة دواليب مملوءة بالخرائط . والواقع اني تألمت من هذه المهمة البائسة ، وانا المهندس صاحب الخمس سنوات من الخبرة الهندسية ، وممثل مجلس الاعمار في العراق ، ومع ذلك قررت المضي بالعمل . وبعد خمسة ايام كاملة ، استطعت ان انظم الخرائط جميعا ، واتعرف على جميع المشاريع التي صممت في تلك الشعبة من الشركة ، وتعرفت على طريقة ترتيب الخرائط وحفظها وتحديثها . لقد تعرفت بشكل تام على جميع مشاريع شركة ومبي من خلال ترتيب الخرائط ، وكانت تلك فائدة كبيرة لي .. وكان هذا اول درس تعلمته في هذه الشركة .
في الايام الاولى من عملي في الشركة ، ذهبت الى احدى دور السينما لمشاهدة احد الافلام ، وفي الفترة بين عرضين للأفلام ، وقفت مع آخرين في خط انتظار شراء شيء ما ، وعند وصولي الى البائعة التي تلبس صدرية بيضاء عليها اسم السينما وقبعة تغطي رأسها ، وعلى صدرها مصباح لإنارة الطبق المعلق على صدرها . وعندما قدمت لها النقود استغربت من الابتسامة العريضة التي واجهتني بها ، ثم تركتها وعدت الى الصالة لإكمال المشاهدة . وفي اليوم التالي وانا اعمل على منضدة الرسم ، وقفت امامي فتاة حسناء تعمل رسامة في المكتب نفسه ، وقالت : انا ماريكا .. هل تذكرني ؟ ، فوجئت وتذكرت انها الفتاة نفسها التي كانت تبيع بالأمس المرطبات في السينما ، فقلت لها : هل تعملين بعد كل هذا اليوم الطويل من الدوام في الشركة ؟ قالت : امر طبيعي ، لأنني وخطيبي قررنا ان نتزوج بعد فترة وما علينا الا ان نعمل اعمالا اخرى ، لتغطية نفقات زواجنا .. اضافة الى ان رواتب النساء عادة ، هي اقل بكثير من رواتب الرجال .
بدأت بالتفكير بأهمية مواكبة زملائي المهندسين في الشركة في كفاءاتهم التصميمية ، فقد لاحظت فرقا كبيرا في انتاجي كمهندس مصمم مع اقراني المصممين العاملين في الشركة .. وهذا ما أثر بي وقررت اما ان اكون بنفس كفاءة زملائي الانجليز أو العودة الى العراق .
اعطيت لنفسي وقتا محددا لتحسين كفاءتي خلاله ، امده ثلاثة اشهر ، وان لم استطع ، فيعني هذا تخلفي من الجوانب النظرية والعلمية ، والافضل العودة الى بغداد واتخلى عن مهنة الهندسة ! . قررت الالتحاق بمدرسة هامر سمث لفن التصميم ، وكانت تقدم دروسا مسائية متخصصة بالهندسة الانشائية ، كما طلبت من رئيسي في شركة ومبي ان اتفرغ يوم الجمعة من كل اسبوع للدراسة في تلك المدرسة . وعدت الى الدراسة المكثفة لنظريات الهندسة والمراجع العلمية والى المراجع الهندسية التي يعمل عليها المصممون الانشائيون في بريطانيا ، وهي بشكل رئيسي المواصفات البريطانية ((BS_BRITISH STANDARD، بالإضافة الى مراجع
( (CP_CODE OF PRACTICE أي مراجع تطبيق التصاميم عملياً .
كان عملي في شركة ومبي يبدأ الساعة التاسعة صباحا وينتهي في الساعة الخامسة مساء، وخلال هذه الفترة كنت اركز على الاعمال التصميمية الانشائية المناطة بي ، مستعينا بالمراجع العلمية الاخرى في مكتبة الشركة ، وبخبرة المهندسين الاقدمين من ذوي الخبرة الطويلة ، ثم اعود الى شقتي في (Shepherds Bush 48 Romney court ) لقضاء ساعة من الراحة ، قبل ان التحق بالدراسة المسائية لمدة ساعتين ، اضافة الى الدراسة استعدادا للامتحانات للحصول على شهادة عضوية معهد المهندسين الانشائيين في بريطانيا . وعند عودتي الى البيت اجد زوجتي سعاد قد اكملت جميع مستلزمات البيت . والحقيقة انها لم تشعر بالوحدة لأنها التحقت ايضا بدروس بالتصاميم الداخلية (Interior Design ) … وهكذا اكتسبت خبرة تصميمية جيدة ، ووضعت نفسي على الطريق الذي يوصلني الى الهدف المنشود ، وان اواكب زملائي الآخرين في شركة ومبي . لقد كانت الخطوة الاولى لتكوين شخصيتي الهندسية ، وتحملي مسؤوليات تصميمية كبيرة ، ومشاركة رؤسائي في تصاميم مشاريع كبيره .
من المشاريع التي عملت عليها من تصاميم المشاريع الانشائية الكبرى طيلة فترة عملي في دائرة تصاميم الهندسة المدنية في شركة ومبي / هامر سمث ، تصاميم الهياكل والمنشآت البحرية لشركة النفط BP في الخليج العربي ، وعدد من منشآت الهياكل الحديدية في انحاء مختلفة من بريطانيا ، وجدران خرسانية ساندة في احد مناجم الفحم في ( ويلز ) ، ومنها تدقيق عدد من الاعمال قبل عرضها على مدير الدائرة للموافقة عليها لتكتسب الطابع الرسمي .
من اهم الاعمال التي اذكرها عملي على محطة كهرباء رئيسية في ( هونك كونك ) المقاطعة البريطانية في شرق الصين ، اختير لها موقع على ساحل البحر . ولعل من اهم اعمال المحطة انشاء المدخنة ، فقد كانت بارتفاع نحو 200 قدما والقطر الاسفل لها يبلغ 20 قدما ، على ان تشيد على الساحل بالكونكريت المصبوب موقعيا ، وتغلف من الداخل بطبقات من الطابوق الحراري . ولم تكن هناك صعوبة في تقرير مساحة القاعدة وعدد الركائز وعمقها لمعرفتنا بطبيعة التربة في تلك المنطقة ، غير ان الصعوبة كانت في تحديد سرعة هبوب الرياح السريعة جدا ، من نوع )الهركين( او )التايفون( ، وقد تتجاوز سرعتها 200 ميلا في الساعة احيانا ، مما يؤثر بدرجة كبيرة على شدة ضغط الهواء على جوانب المدخنة العالية ، وبالتالي على الهيكل التصميمي والاسس، وكانت سلطة الكهرباء تعطينا ارقاما متباينة ، مما يؤدي الى تغيير التصاميم وفقا لتلك المتغيرات ، واستقر الامر على ان يكون الرقم 200 ميل في الساعة هو المعول عليه وبذلك اكملت التصاميم المطلوبة .
وعملت كذلك على تصميم قاعدة محطة الكهرباء هذه واسسها ، على ان يكون اعلى الاسس فوق مستوى البحر بقليل ، وبعد استعراض البدائل التصميمية ومتطلبات العمل حول الاسس الواقعة تحت مستوى سطح البحر ، تقرر العمل على تقسيم اسس المحطة وجدرانها الى خلايا عديدة . والاهم من هذا كله ان يجري تصميم هذه الخلايا كما هو متبع في صناعة السفن . أي تكون عملية التشييد على مزالق خارج منطقة العمل ، ومن ثم تسحب او تزلق الى البحر فتكون كسفينة ، وتسحب بواسطة قوارب ساحبة الى منطقة العمل ثم توضع في محاورها الدقيقة ، واغراقها في مياه البحر حتى تستقر تدريجيا تحت الماء .وتجنب هذه الطريقة الفنية الدقيقة صعوبات العمل تحت الماء . وبعد الانتهاء من هذه العملية بنجاح ، يستمر العمل على الاجزاء العليا من اعمال المحطة . لقد كانت هذه تجربة عملية فريدة وجديدة بالنسبة لي ، وتعلمت منها الكثير من الفوائد والافكار التخطيطية والاقتصادية باستعمال التقنيات الحديثة .