الجزء الأول
د. علاء الدين الظاهر
مقدمة
التقيت في احدى الجلسات بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 بالمرحوم العميد الركن المتقاعد ضياء العلكاوي التكريتي ولم تكن لي معرفة سابقة به. اثرت موضوع عبدالكريم قاسم فكان رد احد الحاضرين بأن عبدالكريم قاسم انزه واشرف من حكم العراق. وقف ضياء العلكاوي محتجا وهو يهز اصبعه قائلا « لا، لا، عبدالكريم قاسم اشرف وانزه حاكم في العالم ». عندها سألته لماذا شارك اذن في انقلاب 8 شباط فأجاب « كنا نؤمن بالوحدة بالعربية»، ثم اضاف « وشحصلنا من العرب» ثم اشار الى الجيش الاميركي الذي لم يكن بعيدا عن مكان لقائنا. التقينا بعدها مرة ثانية فعانقني بحرارة اخوية وكأني صديق قديم له. اعتبرت رده وسلوكه دليلا على النضوج وعلى التعلم من الاخطاء وتحمل المسؤولية مما وصل اليه العراق من اوضاع برغم انه كان برتبة ملازم سنة 1963. كنت اتمنى ان الكثيرين ممن شارك في نشاطات ومحاولات انقلابية ضد عبدالكريم قاسم قد وصلوا الى نفس النضوج الذي وصل اليه ضياء العلكاوي لكن الذي حصل هو العكس. انكفأ العديد من البعثيين والقوميين الى مواقعهم العدائية ضد الزعيم وحكمه مبررين سلوكهم الاجرامي الدموي والخياني بل قاموا بتلميع وجه المجرم الدموي علي صالح السعدي.
نشر مثلا ستار الدوري اوراقه « البعثية القديمة » وخصص بضعة اوراق منها لمهاجمتي ومهاجمة والدي مستعملا الاساليب البعثية الوضيعة نفسها. شكك بمؤهلاتي العلمية وادعى ان والدي (العميد المتقاعد عبدالجبار عبدالكريم) كان ضابطا صغيرا في اللواء التاسع عشر (لواء عبدالكريم قاسم قبل الثورة). سبب هذا الهجوم الشخصي هو مقالاتي العديدة التي نشرتها عام 2000 في بعض الصحف العربية اللندنية والتي انتقدت فيها كل الاحزاب العراقية من شيوعية وقومية وكردية واسلامية وعالجت فيها تفاهة وسخافة الاتهامات التي وُجهت الى عبدالكريم قاسم. كما وجهت نقدا قاسيا الى جمال عبدالناصر، صنم البعثيين والقوميين الاعلى. في الواقع راجعت ما كتبته بعد صدور العديد من المصادر والمذكرات منذ ذلك الحين فلم اجد خطأً واحداً لا في القراءة ولا في التحليل ولا في التأريخ. استعملت مصادر وتحليل علمي للأحداث وبعضها انا شاهد عليها. ومصادري هي مذكرات الضباط القوميين في العراق وضباط ووزراء عبدالناصر فضلا عن الوثائق البريطانية والاميركية وبعض اعضاء الهيئة العليا للضباط الاحرار ووزراء قاسم مثل المرحوم محمد حديد. اختلفت مع غيري من اكاديميين وكتّاب في انني لم استخدم النص بطريقة عمياء بل قمت بتفكيكه وقرأت ما لم يذكره اصحاب المذكرات وأنا على معرفة بالكثير مما لا يذكروه.
ومن الجدير بالذكر ان احد الصحفيين العرب ذكر لي انهم « اي القيادة » في العراق معجبون بمقالاتي. لم اعطِ في حينها اي قيمة لرأي صدام التكريتي في كتاباتي لكني وجدت تسجيلا صوتيا لاجتماع لمجلس قيادة الثورة في عام 1995 وقبل نشر كتاباتي بسنوات يتفق فيه صدام وإن كان بإيجاز مع كل ما كتبت. اضع هنا رابطا لهذا التسجيل
ما يزال ستار الدوري وامثاله منشغلين بإبادة الآخر من خلال الاساءة الى سمعة الآخرين ونشر الاكاذيب عنهم، وسلوكه هذا هو امتداد لعمله في الاذاعة والتلفزيون بعد انقلابي دواعش 1963 ودواعش 17 ــ 30 تموز 1968. بعد هذا الانقلاب الاخير، قام ستار الدوري بعد ان اصبح مديرا للاذاعة والتلفزيون بنشر صورة مزورة تُظهر عبدالسلام عارف في احد الملاهي الليلية يشرب الكحول والى جانبه منير روفا (الطيار الذي هرب بطائرة ميغ 21 الى اسرائيل) وزوجته. ولو صحّ وجود ارتباط بين عبدالسلام عارف ومنير روفا لكان من واجب دواعش 1968 التحقيق في امر هام يتعلّق بإختراق امني خطير للموساد الاسرائيلي والمخابرات المركزية الاميركية لرئاسة الجمهورية العراقية لكن احمد حسن البكر وستار الدوري كانا يعرفان تماما انها اكذوبة مثل اذاعة برقيات التأييد الكاذبة اثناء انقلاب دواعش 1963. في الواقع كان منير روفا من اقرباء البعثي طارق عزيز. ولم يكتفِ ستار الدوري بهذا بل قام مع ماكينة الدعاية البعثية بنشر الاكاذيب عن زوجة عبدالسلام عارف. في نهاية المقالة سأعود للرد على افتراءات ستار الدوري عني وعن والدي.
اميركا وانقلاب 1963 الداعشي
في عام 1960 او بداية عام 1961 ذكر والدي لنا بأن المخابرات المركزية الاميركية ارسلت منديلا مسمما للزعيم. كان الزعيم يضغط بإستمرار في كفه بسبب الاصابة البالغة في ذراعه الايسر بعد محاولة اغتياله في تشرين الاول 1959. لا اعرف ان كانت السلطات العراقية تملك اثباتا يدين المخابرات المركزية الاميركية ام مجرد تحليلات وتخمينات. في بداية اقامتي في الغرب عام 1975 شكّل الكونغرس الاميركي لجنة برئاسة السيناتور فرانك تشرتش لجنة للتحقيق في نشاطات المخابرات المركزية الاميركية وظهر ان (الدكتور في الكيمياء) سيدني غوتليب ترأس مجموعة خاصة في المخابرات المركزية الاميركية، كان وراء ارسال هذا المنديل المُسمم. بمعنىً آخر، ان المخابرات المركزية الاميركية كانت تقول للبعثيين انها ستكمل ما فشلوا في انجازه. كان فيديل كاسترو وباتريس لومومبا وعبدالكريم قاسم على لائحة اغتيال المخابرات المركزية الاميركية . من الجدير بالملاحظة ان تحقيقات لجنة السيناتور فرانك تشرتش لم تجد اي اثبات لمحاولة اغتيال عبدالناصر او عبدالسلام عارف او احمد حسن البكر.
لدي تسجيل فيديو لتقرير اخباري اميركي يهلهل ويرحب « بالثورة » التي اطاحت في « « يوم مقدس » بـ « المؤيد للشيوعيين » عبدالكريم قاسم. ويدعي التقرير بأن قاسم اعدم عشرة الاف من معارضيه (في الواقع كانت الاعدامات بحدود الثلاثين). ويضيف بأن القتال كان موجها ايضا ضد « آلاف من شيوعيي حلف وارشو الذين تسللوا الى العراق » (يبدو انهم تسللوا عن طريق تركيا الناتو وايران السنتو او الاردن او السعودية او الكويت، يا للسخافة). ويمضي التقرير قائلا ان الحكومة الجديدة وعدت بإنهاء سياسة قاسم المعادية للولايات المتحدة وبريطانيا وعبدالناصر. عندما كنت في الولايات المتحدة اخبرني احد زملائي الاكاديميين العراقيين الذي كان هناك اثناء انقلاب دواعش 1963 بأن مانشيت احدى الصحف الرئيسية الاميركية كان « البيريات خضر (اي الحرس القومي) والدم احمر (اي الشيوعيون) ».
لم يعد سرا علاقة دواعش 1963 بالمخابرات الاميركية. الملك الاردني حسين اخبر محمد حسنين هيكل في مقابلة صحفية في ايلول من نفس العام بأن البعثيين اجتمعوا قبل الانقلاب في الكويت بالمخابرات المركزية الاميركية وان المخابرات المركزية الاميركية يوم الانقلاب كانت تبث من اذاعة سرية اسماء وعناوين الشيوعيين كي يتم القبض عليهم. ولا ينكر هاني الفكيكي وطالب شبيب ولا حازم جواد علاقة البعثيين بإيليا زغيب عميل المخابرات المركزية الاميركية ويضيف حازم جواد اسم مشبوه آخر هو علي عبدالسلام. طالب شبيب نفسه كان متزوجا من اميركية، عمل قبل الانقلاب ككيميائي في شركة غربية. اما صالح مهدي عماش فكان قد خدم كمعاونٍ للملحق العسكري في واشنطن. بعد ان اصبح عماش وزيرا للدفاع كان على وشك تسليم طائرة ميك 21 الى اميركا لولا اكتشاف الامر من قبل مدير الشرطة العام الذي كان اثناء غياب عماش وزيرا للدفاع بالوكالة حين زاره السفير الاميركي لبحث التفاصيل متصورا انه يعرف بالامر. هل مصادفة ان يهرب منير روفا بعد ثلاث سنوات بطائرة ميك 21 الى اسرائيل وهو من اقرباء طارق عزيز؟ وهناك ايضا الرائد محمد حسين المهداوي الذي تلقى تدريبا عسكريا في الولايات المتحدة.
يقول هيكل ان عبدالناصر حذّر علي صالح السعدي بعد انقلاب 1963 من ان بيل ليكلاند « خبير انقلابات ». عبدالناصر يعرف شخصيا بيل ليكلاند الذي كان مع كيرميت روزفلت ومايلز كوبلاند وولبر ايفلاند وغيرهم من رجال المخابرات الاميركية يلعبون معه التنس ويتناولون معه العشاء في بيته. رائد الامة العربية لم يجد ضرورة لتحذير عبدالكريم قاسم من بيل ليكلاند الذي ارسلته وكالة المخابرات المركزية تحت غطاء ملحق صحفي في السفارة الاميركية ببغداد، ارسلته خصيصا للاطاحة بعبدالكريم قاسم.
رغم اني اعرف ان القانون الاميركي يمنع وكالة المخابرات المركزية من البوح بأسماء عملائها وممثليها لكني قبل نحو عشرين عام ارسلت للمخابرات المركزية رسالة ذكرت فيها اني اعرف ان بيل ليكلاند كان رئيسا لمحطة المخابرات المركزية في بغداد وإنه كان وراء انقلاب 1963 واود ان اعرف اسماء العراقيين الذين تعاملوا معه. جاء الرد مقتضبا بأن الوكالة لا تنفي او تؤكد نشاطات عملائها. اترك للقارئ الفرصة ليتمحص في هذا الرد وإن كان نفيا بالفعل.
ان بعض من اعتمدهم البعثيون في « نضالهم » ضد عبدالكريم قاسم كانوا من « شقاوات بغداد » مثل صدام التكريتي ومحمد فاضل الخشالي ومحي مرهون وناظم كزار وابو العوره والاخوين جبار وستار الكردي وعمر دبابه. وكذلك « ولد الصفرة » و « ولد الحمرة » من « شقاوات الاعظمية ». استعمال « الشقاوات » واثارة الشغب والاضرابات مأخوذ من كتاب المخابرات الاميركية عن تدبير الانقلابات كما طبّقه كيرميت روزفلت بنجاح عندما استعمل « شقاوات طهران » لإثارة الشغب والاغتيالات ثم الانقلاب العسكري عام 1953 للاطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق المنتخبة.
اخبرني المرحوم اللواء الركن كمال مصطفى علمدار وكان مشاركا في انقلاب دواعش 1963 (وندم لاحقا) ثم التحق بالقيادة الكردية في بداية السبعينيات، بأن المخابرات المركزية دبرت قبل الانقلاب التعاون بين القيادة الكردية وحزب البعث عن طريق طاهر يحي التكريتي ذو الاصول الكردية. بعد مدة قصيرة من انقلاب دواعش 1963 انفجر القتال مع الاكراد حيث استخدم دواعش 1963 قسوة لم يعهدها الاكراد في عهد عبدالكريم قاسم وكانت خسائرهم فادحة. استنجد الملا مصطفى البارزاني بالولايات المتحدة في رسالة بعثها الى الرئيس جون كيندي. جاء الرد قصيرا من القنصل الاميركي بطهران « ان الحكومة العراقية صديقة لنا ». (امتلك نسخة من رد القنصل) .