جرعة الكراهة والتشرذم

هذه المناخات المسمومة بالكراهة والأحقاد لم تهبط على مضاربنا من كوكب آخر، وهذه المخلوقات التي تتفسخ متشظية بين عيال الله، لم ترسل إلينا من فسطاط الكفر والشيطان وغير ذلك من يافطات وإجابات انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. إنها باختصار شديد؛ بضاعتنا الكاسدة لأكثر من ألف عام وعام من السبات والاغتراب عن حركة الحياة ونشاط العقل والوجدان، هذه الأوضاع الشاذة هي من منحت منظومة الهلاك والانحطاط وكراهة الآخر المختلف وشيطنته؛ كل هذه السطوة والمكانة والتأثير على مصائر عيال الله في مضاربنا المنكوبة. إن متابعة ومطاردة وسحق من ينفّذ هذه الجرائم البشعة والانتهاكات، لن يفضي الى زوال هذه الحقبة المظلمة من تأريخنا الحديث، كما حصل مع التنظيمات والشبكات الإجرامية والإرهابية التي سبقتها على هذا الطريق، إذ ورثت داعش إرث عصابة أبو مصعب الزرقاوي كما ورث الأخير فلول النظام المباد وكوادره المتقدمة، وخبراته في مجال ابتكار آخر اشكال الإجرام والخسة والغدر تجاه من حاولت السماء تكريمه ذات نص. ومع بقاء هذا الموقف المائع والبعيد عن المسؤولية من العلل الأساسية التي تقف خلف هذه الصفحات المظلمة من وضعنا الراهن، يعني أننا سننقرض لا محالة ونحن نطارد البعوض من دون أن نتجرأ على الاقتراب من مستنقعاته وبالتالي تجفيفها.
مع مثل هذه الطبقة السياسية وحطام عقائدها وخطابها وتصريحات ممثليها وزعيق منابرها التقليدية والحداثوية؛ لا يمكن انتظار نهاية قريبة لهذه المحطة الكارثية من تاريخنا الحديث. إن ما يحصل معنا من ردة حضارية وقيمية في شتى مجالات الحياة، والذي تجلى بوجهه الأشد بشاعة في مشاهد القتل الهمجي والجماعي الذي تعرضنا إليه في العقود الأخيرة، وما لحق بنا جرّاءها من أضرار بشرية ومادية هائلة؛ هي في الكثير من تجلياتها نتاج لجرعة الكراهة والتشرذم التي تسللت إلينا بنحوٍ واسع ومبرمج منذ نصف قرن تقريباً (بداية السبعينيات) عندما تغولت مخلوقات (التكفير والهجرة) المنحدرة إلينا من حفريات حسن البنا وسيد قطب وبقية سدنة وباء الكراهة والتشرذم والأحقاد. إن المواجهة الحقيقية هي مع خطاب وثقافة الأحقاد وكراهة الآخر المختلف، عبر الضد النوعي لها؛ أي ثقافة التسامح ومنهج اللاعنف وفهم الآخر واحترام حق الاختلاف والتعددية والتنوع، التي تشكل ناموس حركة الحياة وما يحيط بنا من حركة وصيرورة لا انقطاع لها.
إن انتظار حصول تحولات أو إصلاح داخل المؤسسات التقليدية النافذة، والتي تقف خلف قسم كبير من هذا الركود والتشرذم على أساس الهلوسات القاتلة، من دون وجود قوى ضغط ومعادلات جديدة تدفع نحو التغيير، هو ضياع إضافي في الطريق نحو السراب، لأن قوى التخلف والتقليد، لن تحيد عن سبيلها الذي لا تجيد غيره، وهي كما برهنت تجارب الأمم التي وصلت لسن التكليف الحضاري، قد أكرهت على تلك التحولات التي شهدتها، واضطرت الى الخضوع لشروط الحياة الجديدة وتشريعاتها المناصرة لكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته. وهذا ما يجب أن نستعد له إن شئنا الخلاص من مثل هذه المصائر المثقلة بالذل والخنوع. لا مفر من المواجهة الجريئة والمسؤولة مع هذا الإرث المميت وسدنته من شتى المنحدرات والذرائع والعناوين، وغير ذلك سندفع ثمن تراخينا وتهاوننا وقلة حيلتنا في هذه المنازلة التي تأخرت كثيراً؛ أثماناً قاسية وأحداثاً لن تقل بشاعة عما حصل لنا برفقة قوافل الدواب المفخخة بالسرديات شديدة الانفجار..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة