لعبة بين ساترين

زهير كريم

في المرة الأولى لم يصبه، وفي الثانية والثالثة والرابعة والخامسة ، وهكذا مرت ساعتان من الرعب، كلما رفع العريف المخابر رأسه للخروج من الحفرة التي بين ساترين، عالجه القناص الذي خلف الساتر بطلقة، السادسة لم تصبه والسابعة والثامنة أيضا، ثم وجّه العريف خطابا صامتا لعدوّه الذي كان يلصق عينه على مرقاب قناصته: سوف أنجو، أما انت سوف تفقد الأمل. قال ذلك، وكانت العتمة تهبط على أرض الفاو في الشهر الثاني من عام 1986، كل شيء كان ساكنا كما لو أن لا أحد سينجو، وأن هذه الوحشة التي تسكنه هي اشارة على نهاية العالم، وأن هذا القناص يعبث بحياته، وأنه لأمر محيّر عندما يخطئ في كل مرة ، وأنه ماذا يريد بالضبط !!،وهل صارت حياة الكائن تسلية في هذا العالم الفاسد ، وماهي حقيقة الحرب، ولماذا هو هنا اصلا ؟؟؟، وكان العريف في الحفرة يدخن وينظر الى السماء المليئة بسحب الدخان، والقناص مازال يعبث كما لو أنه يريد الوصول لمقام ما : ايّ مقام تافه هذا الذي التي تريد الوصول اليه . قال العريف ذلك كأنه يحاول ايقاظ شخص غافل عن الحقيقة التي في جواره، كائن يغرق في لذة الوهم، أو أنه يريد ايقاظ نفسه، ثم رفع رأسه مرة أخرى فأطلق القناص التاسعة ثم العاشرة فاستقرتا معا في تلة صغيرة من التراب، تطاير الغبار وتكور الجندي المحاصر مرة اخرى في حفرته التي بين ساترين، وكأن الذي يحدث بينهما يشبه اللعبة، شروطها أن يصوب الذي خلف الساتر فيخطئ، وأن يتكور المحاصر بعد كل مرة فلا يخرج حتى يجيء الليل، وحاول بعد ذلك كل منهما تكرار الفعل ورد الفعل مرات اخرى ، يرفع الأول رأسه ليختبر انتباه القناص، ويصوب القناص فيخطئ ، ثم دخن العريف سيجارته الحادية عشرة بعد الاطلاقة الحادية عشرة، وبال للمرة الثانية عشرة في ذات الحفرة بعد الرصاصة الثانية عشرة، حتى صعدت أبخرة خانقة ، ولم يكن ثمة حل سوى الانتظار، لكنه في اللحظة التي ظن أنها الوقت المناسب، قررالعريف أن ينهي هذه اللعبة من طرف واحد على الأقل ، وكانت العتمة قد سالت فعلا وغطت العالم من حوله، الرصاص وحده كان يعبر على شكل اسراب تتقاطع في السماء ، نظر الى نجمة وحيدة بدأت تتلألأ للتو كما لو انها تتحدى كل هذا الدخان ، نجمة وحيدة مثله تماما ، أمسك بقوة سلك الاتصال الذي اصابته شظايا في امكنة متعددة على ما يبدو، في المنتصف بين موضعه البعيد والحفرة ربما، أو ربما في مكان آخر قريب من الفتحة التي بين ساترين ، علق الهاتف الميداني الاخضر من نوع اريكسون على كتفه، ثبت خوذته، ضبط حزامه ، وربط بسطاله ودون ان يصوب نظرة لعدوه الذي خلف الساتر ، وثب بكامل فزعه وقطع الخمسين مترا على النحو الذي بدا فيه كما لو أنه أسرع حتى من رصاصة شريكه في اللعبة ، و كان القناص قد غادر منذ دقائق ، وبدأت تظهر في السماء قنابر التنوير والعريف يمسك بسلك نجاته ، ثم تبادل جنود سريته والعدو بعض الرشقات بالأسلحة الخفيفة، رأى ذلك وقدر المسافة فكانت تقريبا عشر دقائق من الركض، وكان خائفا حقا، قدماه ترتجفان وقلبه ينبض، ولا دليل له للوصول سوى سلك الاتصال ، لكنه كان مقطوعا بسبب شظية هاون او قذيفة دبابة ربما ، كان ذلك بعد ثلاث دقائق من الركض، ولم يعد في يده سوى طرف واحد، حاول أن يزحف ،للبحث في العتمة عن طرف السلك الثاني، ولم يكن من الممكن أن يحصل هذا الشيء ، شعر للحظة انه سيموت هنا ، بشظية أو اطلاقة ، عليه أن يجد السلك ويصلحه، لكن القصف صار أكثر كثافة، والملجأ بعيد، رغم أن الحفرة التي يسميها الملجأ ليست آمنة بالدرجة التي تجعلها شرطا نهائيا للنجاة ، لكن رفاقه يصنعون الشاي الآن، ويفتحون علب الجبن _كرافت _ ويسخنون الخبز، هكذا تخيل وهو يحتاج الي شيء حميمي كهذا، الشاي خاصة ، وكان حظ العريف المخابر جيدا ، تلمس جيبه، وكانت علبه السجائر نصف ممتلئة، بعث هذا في نفسه شعورا بالارتياح، ثم قرر أن يركض، لكنه يحتاج الى استراحة قصيرة ، لم يعد في جسده وقتها تلك الطاقة على الركض، ولكن يجب أن يركض، ويركض حتى يصل، فركض بدون أن يفكر بتصليح الخط ، رغم أن آمر الفوج قال له : يجب ان تأمّن الاتصال : ولكن كيف يفعل ذلك في هذه الظلمة . انفلقت قذيفة في مكان ما في الجوار، و تعثر هو بشيء ما ، لم يكن حجرا، ولم يكن كيس تراب من ذلك الذي يوضع لعمل المتاريس، كان هذا الشيء رخوا، أراد أن ينهض وكان قلبه على وشك التوقف، رغم ذلك، أحسّ بهاجس يلح عليه لمعرفة ما هو هذا الشيء الذي تعثر به ، وكان العربف صغيرا، وهذه تجربته الاولى في الحرب، أشعل القداحة، فكانت جثة منفوخة فبدا له ان حجمها ضعف حجم جنديّ عادي، هبط فكان الجندي ساكنا فعلا ، دمه قد جف، ربما من يومين أو أكثر، خوذته لم تزل مثبتة على رأسه، ويداه كانتا ممدوتين كأنه ينام بعمق ، هكذا بدا له، لحيته خفيفة وفمه مفتوح ، شعر بكثافة الرائحة فنهض، وكان يريد مواصلة الركض،لكن قذيفة اخرى انفلقت ، كانت قريبة جدا وبالصدفة وجد نفسه في ملجأ داخل الساتر الذي يواجه جانبه الآخر قوات العدو، انزلقت قدماه وهو يركض فلم يجد ما يفعله سوى يترك جسده المتصدع يندفع الى الداخل، وكان الشعور بالخوف اكبر من أن يوقفه أي شيء، أنهار جسده وتشتت عقله فكانعلى حافة الجنون ، أو ربما السكتة القلبية ، اتكأ على الحائط وأحس أنه ليس وحده في المكان، العتمة كانت كثيفة الى الحد الذي لم يتمكن من رؤية حتى نفسه ، لكنه ليس وحده بالتأكيد، ثمة من يشاركه المكان ،هذا ما شعر به ، رأى قنبلة تنوير، توهجت من فتحة في سقف الموضع لفترة ثم انطفأت ، قال : لقد دخلت قذيفة هاون ربما فأحدثت هذه الفتحة ، ثم تيّقن منطقيا هذه المرة وليس بالحدس أن الملجأ ليس فارغا أبدا ، اشعل سيجارة فرأى على لهب القداحة بشكل أوضح ، القتلى وهم يحيطون به ، كانوا خمسه او ستة قتلى ، فلم يحتاج لخبرة كبيرة كي يتقين ان الملجأ قد تعرض للقصف، لقد سقطت قنبلة هاون لتفعل كل هذا الخراب ، حتى الجثة التي في الخارج ، لم يكتب لها النجاة ، قال لنفسه وهو يتذكر تلك العينان الباردتان المفتوحتان على اتساعهما ، شعر بالعطش، كانت الرائحة كثيفة بالقدر الذي جعله لا يستطيع التنفس، فكر أن يخرج لكنه كان خائفا وغير واثق من الوصول الى موضعه ، وأثناء ذلك ، نسى حتى المهمة التي خرج من اجلها ، كان شعوره يتركز على جدوى وجوده، شيء هو مزيح من العدمية والخوف والأسئلة المقلقة: سيقولون انه قتل وحسب . قال هذا كما لو انه اتخذ قرارا بالبقاء حتى يهدأ القصف على الأقل ، رمى الهاتف الميداني من كتفه ، أشعل القداحة مرة اخرى وكان يشعر بالعطش، كانت هناك عبوة من المعدن في الزاوية ، تناولها، فتح الغطاء، شرب حتى بلل ملابسه بما تناثر من فوهة العبوة ، ثم أحس بالبرد ، ارتجف جسده كما لو انه مصاب بالحمى، ولم يكن مستحيلا أن يحصل على دثار، اشعل سيجارة أخرى واثناء ذلك بحث عن غطاء ، كان طرف بطانية يغطيه التراب، سحبه وكان يدخن عندما هدأ في الخارج كل شيء، لم يعد يسمع حتى صوت اطلاقة واحدة ، تسلل ضوء القمر من الفتحة التي في السقف، شعر بنعاس أو ما يشبه محاولة لنسيان العالم ، وضع رأسه على بطن جثة ، أفرد رجليه فتشابكت مع سيقان اخرى، أغمض عينيه وبدأ يبكي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة