كوجو والعدالة الغائبة

قبل أيام تمكنت سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة والناجية من أسر عصابات الدونية والإجرام (داعش) الشابة الإيزيدية نادية مراد من زيارة قريتها المنكوبة (كوجو) بعد احتلال دام لما يقرب الثلاث سنوات (آب 2014- آيار 2017). ما جرى في كوجو تعجز عن تدوينه الكلمات، كوجو؛ القرية المسالمة المستلقية عند اطراف مدينة سنجار ذات الأكثرية الإيزيدية، التي شهدت أحداث هزت ضمائر جميع سلالات بني آدم ما خلا مسوخ البشر الذين ما زالوا يهدهدون في أرواحهم الخربة أحلام داعش والمتجحفلين معها بنصوص وسرديات قاتلة.
في إسبانيا العام 1937 أبان الحرب الأهلية، تعرّضت مدينة جورنيكا لقصف طائرات سلاح الجو الهتلري وأدى ذلك الى سقوط مئات القتلى، تلك الجريمة النكراء لم تمر ولم يسمح أحرار إسبانيا والعالم للنسيان بطويها، فتحولت الى وصمة عار لا تمحى في جبهة القتلة من النازيين الألمان والفاشيين الطليان، وقد دونت ذلك الى الأبد لوحة بيكاسو الخالدة (الجورنيكا). ما جرى في كوجو أقسى وأبشع بما لا يقاس عن ذلك الذي حدث للمدنيين الإسبان في جورنيكا، إذ تم إبادة رجال وشباب القرية بالكامل وتم سبي واغتصاب النساء واستعباد الأطفال لا لذنب اقترفوه سوى اختلاف دينهم عن دين عصابات داعش الهمجية، كل ذلك لم يترك ردود أفعال بيننا نحن سكان هذه المضارب المنحوسة، تتناسب وذلك الحدث الجلل..! ومثل هذه المواقف ستتوقف عندها الأجيال المقبلة، بوصفها دلائل على حجم الانحطاط القيمي والأخلاقي الذي انحدرت إليه مجتمعاتنا في هذه الحقبة من تأريخنا الحديث.
إن التشرذم والتمترس الإثني والطائفي الضيق، المهيمن اليوم على عقول وإرادة السواد الأعظم من سكان هذه المستوطنة القديمة وبقية المناطق المتجحفلة معنا بهلوسات وسرديات للدمار الشامل؛ هو من يقف خلف هذا الصمت والتواطئ الواسع مع هذه الانتهاكات والممارسات البشعة والسلوك الشاذ. إن صرخة السفيرة الأممية والسبية العراقية الأشهر نادية مراد من قرية كوجو المنكوبة، والتي طالبت فيها بتحقيق العدالة لبنات وأبناء جلدتها المغدوريين والمسبيين والمستعبديين بيد داعش وحواضنه الممتدة من (بغدان لتطوان)؛ لن تصل لغير أحرار العالم ومنظماته الناشطة في مجال حقوق الإنسان والقليل ممن ما زالوا يقبضون على عراقيتهم وسط هذا الطوفان لـ “الهويات القاتلة” والمدججة بآخر ابتكارات الكراهة والجلافة والشراهة والعدوان.
لكن في نهاية المطاف ستسترد شعوب هذا الوطن القديم، هويتها وروحها وقدراتها العقلية والوجدانية، وآمل من الأقدار أن تمنح شاهدة عصرها (نادية مراد) العمر والفرصة كي تعيش تلك اللحظات التي يعيد فيها العراقيون الحق والعدل لأهله، من دون تمييز على أساس “الهويات القاتلة” وتتحول واقعة تلك القرية المنكوبة (كوجو) الى ناقوس لا يهدئ ومنعطف يعيدون فيه ترميم وترسيخ إرثهم المشرق ومنهل إبداعهم وسر حيويتهم (تنوعهم وتعدديتهم وعقلانيتهم) بعيداً عن كل ما يمت بصلة للردة الحضارية الحالية متمثلة بداعش والمتجحفلين معها برسائل خالدة لا تجيد غير امتهان كرامة الإنسان ومسخه وسحق حقوقه المشروعة في العيش بسلام على أرض آبائه وأجداده..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة