هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 4
الفصل الأول
الأسرة والنشأة
العائلة ، مرحلة الطفولة ، أختي وإخوتي ، كبار رجال العائلة ، مرحلة الإعدادية ،
مرحلة كلية الهندسة
ومن ذكرياتي في هذه المرحلة من حياتي ، سفري انا واخي قحطان اثناء العطلة الصيفية مع والدي لدى قيامه بجولة تفتيشية في لواء الرمادي ، وقد رافقنا عمي محمد صالح زكي (ابو زيد). وعند وصولنا الى ناحية البو كمال وجه ضابط الارتباط الفرنسي المقيم في الجهة السورية من المنطقة ، وكانت سوريا ولبنان تحت النفوذ الفرنسي ، دعوة عشاء الى والدي ومرافقيه ومنهم توفيق المختار قائممقام قضاء عنه ومدير الناحية وغيرهما . وبعد المجاملات الرسمية التقليدية ، جلسنا على مائدة الطعام ، ويا لها من مائدة رتبت بطريقة فرنسية حديثة ، تخللتها احاديث منوعة ، كانت الاطباق تقدم وفيها كميات صغيرة من الطعام على دفعات مع الشراب الفرنسي ، وانتهت بتقديم القهوة الفرنسية المعتادة . ويبدو ان هذه الطريقة لم تلائم ما اعتدنا عليه ، فما ان وصلنا الى بيت مدير الناحية بعد انتهاء الدعوة ، حتى تمت تهيئة العشاء على طريقتنا !
أحيل والدي الى التقاعد عام 1941 وهو متصرف لواء الرمادي ، وفي هذه الفترة انتقلنا للدراسة في مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية في الاعظمية قرب المقبرة الملكية . واذكر حدوث حركة رشيد عالي الكيلاني وانا في الصف السادس ابتدائي ، وقد كنا مندفعين بحماس لتأييد حكومة الكيلاني وكنا نعتقد ان هدفها محاربة الانكليز ليس الا . واتذكر وقوفنا على رصيف الشارع في محلة الشيوخ قرب مقهى حجازي ، حيث كنا نسكن ، لتحية رشيد عالي ونحن نرتدي لباس الكشافة ونحمل عصيّاً خشبية . كما اتذكر حوادث الفرهود وما جرى من اعتداءات على بيوت و أبنية يهودية وسرقة موجوداتها ، وقد تمكنا من حماية عدد من الدور اليهودية في شارعنا .
انتقلت الى الدراسة المتوسطة ، والتحقت بمتوسطة الكرادة الشرقية الواقعة في محلة ارخيته ، وهي بناية حديثة قريبة من الشارع المؤدي الى جامعة بغداد حاليا . وكانت الدراسة في هذه المدرسة متميزة ومتقدمة بطرق التدريس واساليب التعليم. ومن مدرسيها الافاضل ( اوهان دنحو ) للغة الانكليزية و( فؤاد درويش ) لعلم المثلثات . وكان من اصدقائي في الصف الثاني نزار الملائكة الذي عرف بإتقانه اللغة الانكليزية ، وكان يومئذ يتعلم اللغة اللاتينية ، وهو اخو الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة .
أختي وإخوتي
وهنا أبين ان شخصيتي وكياني لم يكتملا الا بعد ان نهلا من أفضال وخواص والدي ووالدتي ، وإلا بوجود إخوتي وأختي , حيث تربينا في دار ملؤها الكرم والمعرفة والمحبة واجواؤها الفنية والعلمية قد كونت شخصيتنا . علاقتنا الاخوية كانت اصيلة وجذرية وتعلمنا من بعضنا البعض حتى عندما تقدمنا بالعمر وكانت لقاءاتنا نحن كأخوة تتميز بتبادل الخبرات والمعرفة كل في اختصاصه وممارساته .
افتخر الآن بذكر نبذة عن اخوتي الذين ، على مختلف اختصاصاتهم ، قد خدموا المجتمع العراقي وبرزوا في اختصاصاتهم وربوا أجيالاً وكان كل منهم من قيادات المجتمع في اختصاصه .
د. قحطان المدفعي تخرج في جامعة ويلز كمهندس معماري وتزوج سيدة يونانية (للي) عندما كان موفداً الى مؤسسة دوكسيادس في أثينا اكمل دراسة الدكتوراه بعد 35 سنة من التجارب المعمارية التي وضعته في مقدمة رواد العمارة .
يعتبر قحطان في المجتمع العراقي حالياً (وانا اعتبره بعد ان عملنا سوية في مكتبنا لسنوات
طويلة ) اقول اعتبره من افضل المعماريين الرواد
العراقيين المجددين في العمارة , كما ان ما لدى قحطان من موهبة فنية في الرسوم التشكيلية والشعر والدراسات الفلسفية قد وضعته مع اوائل المفكرين العراقيين المعاصرين .
د. سهام المدفعي تخرج في كلية الصيدلة في بغداد واكمل دراساته في جامعة يركلي – كاليفورنيا وتزوج من السيدة ابنة عمنا وداد صالح زكي وحصل على البكالوريوس في الهندسة الصناعية وشهادة الماستر في اختصاصه وشهادة الدكتوراه في الصناعات الكيمياوية من جامعة مانشستر في انكلترا . سهام المدفعي عمل في جامعة بغداد ويعتبر من اوائل من حصل على لقب استاذ جامعة بغداد . عمل كذلك كمدير عام في
البحث العلمي وله العديد من الاختراعات المسجلة باسمه كما عمل لعدد من السنوات خبيراً أقدم في منظمة (الأسكوا) في الامم المتحدة .
العميد عصام المدفعي ذو موهبة واضحة في الرسم والتخطيط , حصل على شهادة دبلوم في التصاميم الداخلية من لندن وتزوج من السيدة هناء هاشم الآلوسي , واثناء خدمته العسكرية في دورات الاحتياط ارتبط بالعديد من القيادات العسكرية بسبب اعماله المتميزة فتقرر ضمه الى وزارة الدفاع . خدم كضابط الى ان تقاعد وهو برتبة عميد . وضع العديد من التصاميم الداخلية للمنشآت العسكرية وقصور الرئاسة. عصام كان
الاول في التصاميم الداخلية في العراق وابدع الى درجة مرموقة في كل مراحل عمله .
– ميادة المدفعي وهي السيدة الموهوبة التي تخرجت في كلية اللغات فرع اللغة الانكليزية في بغداد وتزوجت من الفنان سعد شاكر وهو الخزاف الاول في العراق والذي أبدع في تطوير فن الخزف .ميادة كسيدة موهوبة انجبت من سعد شاكر كلاً من الفنان الموسيقار زياد و الفنان التشكيلي دلير.
– إلهام المدفعي الفنان المبدع والذي عزف الاغاني العراقية التراثية على الآلات الموسيقية الغربية وبذلك نقل الاغاني التراثية من المفاهيم الموسيقية التراثية القديمة الى مفاهيم الشباب والشيوخ في القرن العشرين . تزوج الهام من السيدة هالة ابنة المحامي والسياسي المعروف سعاد العمري وبذلك دخل الى نَسَب
عائلتين هما العمرية والسويدية .
برز الهام في نشاطاته الرياضية خلال شبابه وتمرد على مفهوم دراساته الجامعية حيث ركز وهو في اول شبابه على ممارسة الموسيقى وعلى تكوين فرقة موسيقية في محلة نجيب باشا في بغداد . ابدع خلال عمله مع مجموعته في البصرة وثم انتقل الى الكويت ولندن ونقل معه مفاهيم الاغاني العراقية التراثية على الآلات الغربية . خلال فترات عمله كوّن علاقات موسيقية مع العديد من عازفي القيثارة العالميين وعزف في مختلف المناسبات في انحاء العالم واشتهر في عمان بشكل متميز وفي لبنان بشكل كبير كذلك . اعتبرته محطة الاذاعة البريطانية من اكبر واشهر عازفي الاغاني التراثية العراقية .
– زوجتي سعاد علي مظلوم :
وهي اول طالبة عراقية تدخل كلية الهندسة في بغداد وتخرجت كمهندسة سنة 1951 .عملت في مجلس الاعمار وحصلت على اجازه لدراسة التصاميم الدراسية في لندن وانتقلت الى مديرية الموانئ العامة وبعدها الى وزارة الصحة . اوفدت لدراسة الهندسة الصحية في لندن . ولدت لي غادة وكميت وتوفيت في سنة 1984 بمرض عضال.
ابنتي غادة : تخرجت سنة 1977 كمهندسة معمارية من كلية الهندسة في جامعة بغداد وعملت كمعمارية في المركز القومي للهندسة . التحقت بجامعة لندن لدراسة الماجستير في اختصاص Facility Management وحصلت على شهادة العمارة RIBA وتعمل حاليا في جامعة Imperial College في لندن.
ولدي كميت : بعد تخرجه في الاعدادية المركزية التحق بجامعة Catholic University وتخرج كمهندس بناء (Construction Engineer) . كون شركته الخاصة في البناء في لندن وعمل على بناء الوحدات السكنية لسنوات عديدة . عمل كمدير مشروع (Project Manager) على مشاريع عمارات سكنية كبيرة في لندن . والتحق مع شركة Parson الاميركية في ابو ظبي . كون شركته الخاصة حالياً ويعمل في دبي.
مرحلة الاعدادية المركزية
انتقلت الى الدراسة الاعدادية في سنة 1944 ، ودخلت الاعدادية المركزية الواقعة في مركز بغداد ( محلة البقجة ) ، وكانت الدراسة فيها على فرعين العلمي والادبي . وكان اخي قحطان في الصف الخامس ( المنتهي ) ، عندما انتظمت في الصف الرابع علمي ( الشعبة ج ) . كانت الاعدادية المركزية من ارقى مدارس العراق واشهرها ، وتميزها بمستوى التدريس فيها ، اذ كانت تضم اشهر رجال التعليم يومذاك ، واذكر من اساتذتي الافاضل ، صادق الاعرجي مدرس العربية وفؤاد الانكورلي مدرس علم الحيوان ، والاستاذ منعم لعلم النبات ، وعطا صبري للرسم وقد تعلمنا منه كيفية رسم موديل انسان يقف امامنا ، وعلي الوردي مدرس الاجتماع ، وكان يطلب منا الاستماع للمحاضرة وفهمها دون استعمال القلم
والورقة لتسجيلها . كما كانت الاعدادية تضم اسماء لامعة في التربية والتدريس كصادق الملائكة ورشيد سلبي مدير المدرسة ومعاونه علاء الدين الريس .
وللوصول الى المدرسة كنت مع أخي قحطان نأخذ باصات الخشب (وهي الباصات المحورة بعد الحرب العالمية من جسم ومقاعد خشب ) من ارخيتة الى الباب الشرقي مخترقين شارع الرشيد الى (الحيدر خانة) حيث اقرب موقف باص الى الاعدادية . وفي طريق العودة كنت احياناً اسير على قدمي من الاعدادية الى الباب الشرقي مخترقاً اسواق بغداد كيما استقل الباص الى الكرادة – رخيتة .
ومن زملائي الطلاب في الاعدادية ، منذر الشاوي ونزار الشاوي الذي كان من الطلاب غير المهتمين آنذاك بالقراءة والدراسة كثيرا ، الا انه تخرج في الولايات المتحدة وحصل على شهادة الدكتوراه في التحليلات المرضية واصبح فيما بعد رئيس مجلس البحث العلمي ، ومن الطريف ان الشاوي عندما رسب بالبكلوريا اخذ يردد ان معدل درجاته وهو راسب اكبر من معدل زميلنا مروان عريم وهو من الناجحين ، وقد اصبح مروان من كبار تجار بغداد في السنوات الاخيرة من حياته . ومن زملائنا مصطفى البحراني زوج زميلتنا ايتن الرحال وكان فكها وقد اصبح فيما بعد مديرا عاما في وزارة التجارة وهاجر الى الولايات المتحدة وصار من رجال الاعمال المتميزين فيها . وعدنان الربيعي الذي كان الطالب الوحيد الذي يلبس السدارة الفيصلية في الاعدادية ، وقد تخرج من الولايات المتحدة واصبح مهندسا في مصلحة المصايف والسياحة ، وكان الى حين تقاعده من كبار المتخصصين في اعمال السياحة والمصايف . وسعدون القصاب الذي كان رغم بدانته المفرطة يلعب كرة السلة معي في فترة الغداء في المدرسة ، وقد تولى منصب نقيب المهندسين العراقيين ومدير عام النشاطات الصناعية في الجامعة العربية . والزميل شاؤول الذي كان من الطلاب الاذكياء جدا ، غير اني فقدت الاتصال به بعد التخرج من الاعدادية المركزية واعتقد انه هاجر الى اسرائيل. وضياء النقيب وهو ابن احد اعضاء المجلس النيابي وكان طالبا جيدا ، وشغل منصب مدير عام المبايعات الحكومية وصار بعدها محاميا كبيرا .