هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ اخلاقيات المهنة ان تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والابداع ، وممن اسهم في اغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في اعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف ان نسهم في ايصال ماتحمله من افكار ورؤى ، نعتقد ان فيها الكثير مما يمكن ان يحقق اضافات في اغناء المسيرة الانمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل اضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 3
الفصل الأول
الأسرة والنشأة
العائلة ، مرحلة الطفولة ، أختي وإخوتي ، كبار رجال العائلة ، مرحلة الإعدادية ،
مرحلة كلية الهندسة
في عام 1946 عهد الى والدي منصب متصرف لواء كركوك ، في الايام نفسها التي تخرجت فيها في الاعدادية المركزية , وقد اصطحبني معه اولاً لحين انتقال الاسرة ، وفي تلك الفترة حدثت ماسميت بأحداث ( كاوور باغي ) في كركوك، عندما اعلن عمال النفط اضرابهم عن العمل . وقد راقبت عن كثب واستمعت الى المفاوضات بين ادارة شركة النفط وعمالها والتي استمرت نحو اسبوعين، وكان المتصرف وسيطا بينهما ، لإنهاء الاضراب وعودة العمال الى اعمالهم ، كما كنت اسمع المكالمات الهاتفية مع وزير الداخلية او رئيس الوزراء مع والدي لإيجاد وسيلة توفق بين العمال وادارة الشركة ، وقد افلحت وساطة والدي بينهما ، غير انها اصطدمت بقضية رواتب المضربين اثناء فترة الاضراب ، اذ امتنعت الشركة عن حساب فترة اضرابهم ، حتى حدث ما كان يخشاه ، عندما تجمع العمال في منطقة كاوور باغي ، وحدث احتكاك بين العمال وبعض افراد الشرطة ، ففتح احد الشرطة نيران رشاشته فوق رؤوس العمال لتخويفهم او ماقيل فيما بعد انه دفاع عن النفس ، وشاء القدر ان تصيب
الاطلاقات عدداً من العمال المتسلقين اشجار الزيتون التي
تجمع العمال تحتها في حديقة مقبرة لليهود ، وكانت تلك من الحوادث الخطيرة والمثيرة يومذاك . وقد علمت فيما بعد ان هيئة تحقيقية من وزارة الداخلية جاءت الى كركوك للتحقيق في القضية ، وكانت برئاسة المرحوم سعيد قزاز ، وقد اقرت الهيئة بعدم صلة المتصرف حسن فهمي المدفعي باطلاق النار وبراءته مما نسبته اليه بعض الصحف الحزبية .
توفي والدي بتاريخ 17/11/1946عندما كان في سيارته قرب مدينة كفري عائداً من مهمة رسمية في بغداد للقاء رئيس الوزراء ووزير الداخلية ، إذ اصيب فجأة بانفجار دموي في الرأس ، ولم يتمكن من الوصول الى المستشفى في كركوك لإنقاذه .
كانت وفاة والدي المفاجئة مؤلمة للغاية ، غير ان ما قلل الألم والحزن ، تلك السيدة الجليلة والأم الرائعة ، والدتي التي واجهت الحياة بعد رحيل والدي بكل صبر وواقعية ، لتستمر الحياة بوتيرتها الطبيعية ، وتستمر مسيرة ابنائها في الدراسة وتلقي العلوم ومواجهة الحياة …كانت الوالدة ربة بيت كاملة كما اعتقد وكانت تلك الأم الحنون متفانية في تربية ابنائها ، واحسنت ادارة بيتها ، لاسيما عند غياب والدي لفترات طويلة بحكم وظيفته التي تنقل فيها بين مختلف ألوية العراق ، وكانت مسؤولة عن جميع شؤون البيت المالية واليومية، وجهتنا الى الدراسة ومتابعة دروسنا وامتحاناتنا وحفزتنا على التفوق . وبعد وفاة والدي ضاعفت من الاهتمام بنا ، وكانت توجهنا دوما الى التواصل مع العوائل والاحتفاظ بعلاقات طيبة مع اصدقاء العائلة واصدقاء والدي ، اضافة الى أعمامي وأخوالي وأبنائهم ، واتذكر الاجتماعات العائلية في بيوت خالاتي وأعمامي في مناسبات وجود والدي ببغداد ، وفي بيت العم صبيح نجيب
( ابن خال والدي ) ، حيث يجتمع الجميع لتناول الفطور في اول ايام العيد ، او الاجتماع في بيت عمتي( امينة ) زوجة محمود رامز.
لقد كانت والدتي سيدة مدبرة ، واذكر عودتها من الشورجة بالعربة البغدادية التقليدية ( الربل ) الى دارنا في ارخيتة – الكرادة بكل ما يحتاجه البيت خلال الشهر ، حيث تكون الاسعار ارخص والمواد افضل.
لقد كانت والدتي سيدة مجتمع مرموقة ، وكانت تستقبل مع والدي معظم المستشارات والخبيرات الاجنبيات عند زيارتهن العراق ، واتذكر البريطانية فريا ستارك ، كما كانت تحضر العديد من الدعوات الرسمية سافرة تماشياً مع متطلبات المجتمع آنذاك . وكانت تحدثنا بكل ثقة وموضوعية عن الاحداث العامة في ثلاثينات القرن الماضي واربعيناته . واتذكر احاديثها عن مقتل توفيق الخالدي وزير الداخلية في مطلع تأسيس الدولة العراقية ومقتل بكر صدقي ، او مقتل رستم حيدر واتهام اشخاص منهم والدي وعمي صبيح نجيب وابراهيم كمال في تلك القضية ، وما توصلت اليه المحكمة من براءتهم فيها . ولعل من الجميل ذكره انها كانت تعرف بمهارة نسب العائلة وشجرة نسبها .
انتمت والدتي الى عائلة كريمة حيث كان والدها الشيخ نوري اسماعيل الشيرواني قد نزح كما بينت سابقاً من مدينة في ناحية شيروان مازن الى اربيل , أما والدتها (امينه خطاب ) فقد انحدرت من عائلة بغدادية عريقة. لوالدتي عدد من الاخوات والشقيقات .اكبرهم حسيبة زوجه احد ضباط الشرطة في حلب سوريا وهي والدة كل من (يونس وعلاء وزكية ) وبعدهما نسيبة زوجة شوكت سري ووالدة كل من وهبي وجبار ومنعم ود.وجدي وخديجة وعفيفة , وبعدها لبيبة زوجة عبدالله السلام ووالدة كل من لائقة وسعاد و د. وليد السلام و د. خالد السلام وبعدها د. سلمى زوجة د. عبدالرحمن الجوربجي . كما ان بهاء الدين نوري العسكري الوزير والدبلوماسي هو الوالدتي وأخويه قتيبة الشيخ نوري وابراهيم الشيخ نوري كأشقاء .
انتقلنا للسكن في شارع عشرين في الاعظمية بعد وفاة والدي ، في محاولة من والدتي للتوفيق بين دخل الاسرة من تقاعد الوالد وتكاليف المعيشة . وكثيرا ما باعت والدتي من مقتنيات البيت من هدايا ثمينة او حليها الذهبية لتكملة نفقات البيت الشهرية . واستطاعت ان تستفيد من ماترك والدي ، وباعت دارنا في منطقة الكرادة الشرقية ، لبناء بيتنا الجديد في شارع ام الربيعين الموازي لشارع طه في الاعظمية ، وقد صممه واشرف على تشييده المهندس المعماري القدير جعفر علاوي ، وانتقلنا اليه عام 1947 . ولما كان اخي قحطان قد التحق بالبعثة العلمية في بريطانيا لدراسة العمارة كانت والدتي تعتمد عليّ في مراجعة الدوائر الحكومية ومتابعة شؤون الاسرة وتمثيلها في المناسبات الاجتماعية . وبقيت هكذا الى ان توفاها الله عام 2000 عن 89 عاما .
بعد أن انتقلنا الى شارع عشرين في الأعظمية من بيت المتصرف الرسمي في كركوك حيث والدي كان متصرفا للواء, أبقت والدتي بيتنا الذي انتقلنا اليه في شارع عشرين في الأعظمية حزينا لأشهر عده بعد ذلك ، وأذكر أني بقيت لأشهر عدة كذلك أجلس في الصف غير متقبل مع نفسي حقيقة الموت … ولم أدرك معنى الموت تماما الى ان آمنت بواقع الحياة . كان والدي يذكر لنا بأن والده “علي أغا” لم يترك له أية تركة عقار أو أموال عند وفاته .. ولذا أوصانا بأن لا نتوقع أن يترك هو لنا أية تركة من العقارات أو أرصدة بالبنوك.
كان أخي قحطان في بعثة دراسية في بريطانيا وبقيت والدتي هي تدبر امور البيت ، وأنا اساعدها في متابعة شؤون العائلة حسب توجيهاتها … كما التحق أخي سهام بعد تخرجه من كلية الكيمياء ببعثة علمية الى كاليفورنيا وارسلت والدتي عصام في بعثه دراسية على حسابها الى لندن وميادة والهام في مراحل الدراسة.
مرت السنون …. وافترقنا كل في طريق للدراسة والعمل ، والتحقت بنا بعدئذ اختي ميادة بعد تخرجها من دراسة اللغة الانجليزية ، وتفرغ الهام الى فرقته الموسيقية في الوقت الذي لا يوجد من أقرانه من سار في درب الموسيقى والكيتار، إلا اننا وبفضل والدتي التي ابقت العائلة متقاربة ومتلاحمه كنا على اتصال دائم ، نتابع ونهتم بشؤون بعضنا والمهنة والعلم والمعرفة . برز كل منا في اختصاصه بجهودنا وحبنا للعلم والمعرفة و بفضل توجيه الوالد و حرص الوالدة ورعايتها بعد وفاة والدي . وبمثابرة كل منا ومتابعاته وجهوده المضنية أصبح كل منا متقدما ومتميزا في مهنته وبالمستويات العراقية والعالمية .
مرحلة الطفولة
لا اتذكر كثيرا عن فترة الطفولة ، الا اني اتذكر اول عهدي بالدراسة مع اخي قحطان ، عندما سجلتنا والدتي في روضة لكنيسة مسيحية في منطقة الكرادة ـ ارخيته ، لا تبعد كثيرا عن البيت ، واتذكر ان معلماتنا كنَّ من راهبات الكنيسة ونسميهن الماسيرات ، وقد تعلمنا في هذه الروضة اولى محاولات الكتابة والتلفظ بالحروف المختلفة . ثم دخلت الدراسة الابتدائية في المدرسة المأمونية في منطقة الميدان التي تبعد كثيرا عن منطقة سكناي محلة حسام الدين في الكرادة . كانت المأمونية اشهر المدارس الابتدائية يومذاك ، وتقع بجوار وزارة الدفاع
في منطقة الباب المعظم من بغداد، وتطل على ساحة الميدان المكتظة بالناس والاسواق والدوائر الرسمية ، وأمام باب المدرسة كنا نرى ( طوب ابو خزامة ) ، وما يدور حوله من معتقدات شعبية طريفة ، كما كان يقع خزان اسالة الماء خلف المدرسة . كانت بناية المدرسة المأمونية كبيرة وبطابقين ، وممراتها طويلة وصفوفها واسعة والدخول اليها من الجهة المقابلة لسوق الميدان ، وكانت من ابنية بغداد المشهورة ، وقد هدمت في عهد عبد الكريم قاسم مع بناية جميلة هي الاخرى ، وهي بناية مكتبة الاوقاف العامة في الباب المعظم ، لتطوير تلك المنطقة !
كان سائقنا ( قدري ) يأخذنا أنا واخي قحطان بسيارتنا الى المدرسة صباح كل يوم ، ويعود بنا الى الكرادة ، مخترقا شارع الرشيد فشارع السعدون حتى يصل البيت في محلة حسام الدين في الكرادة . كما كان قدري يأخذنا بين فترة واخرى الى اماكن اخرى مثل محل الحلاق ( عزت ) في شارع الرشيد والمجاورا لسوق الهرج ، مقابل محلة ( كوك نزر )
المحرفة من الاسم الصحيح لكنيسة الارمن الارثودوكس التي بناها الضابط العثماني (كيروك نازريان) . واذكر ان عزت الحلاق كان اشبه بكتلة سمينة ، وذا بطن كبيرة ، ويرتدي بنطلونا معلقا (بالآسقي) على كتفه مع قميص ابيض ، وهو من اشهر الحلاقين آنذاك ، وكان والدي من زبائنه .
ومن ذكرياتي في المأمونية ، وقوع انقلاب بكر صدقي (29 تشرين الاول 1936) وانا في الصف الثاني الابتدائي , وحضور قدري لأخذنا من المدرسة وخروجنا من الصف بناءً على توجيهات والدي وعندما سمعنا اصوات انفجارات القنابل التي اسقطتها طائرات عسكرية مؤيدة للانقلاب على مبنى مجلس الوزراء القريب من المدرسة ( كان المبنى بجوار القشلة امام جامع السراي ) ، لفرض الامر الواقع على رئيس الوزراء ياسين الهاشمي والاسراع باستقالته .
كانت محلة حسام الدين من محلات الكرادة الحديثة في العشرينات ، وتقع على الطريق المؤدي الى معسكر ( الهنيدي ) الذي سمي فيما بعد بمعسكر الرشيد ، ونسب اسمها الى السيد حسام الدين جمعة وهو من الشخصيات السياسية والادارية المعروفة ، من اوائل من سكن تلك المنطقة ، ويقع بيته مجاور بيتنا شمالا والى جوار بيت بكر صدقي . ويقع في المحلة ايضا بيت صبيح نجيب وكنا نسميه ( عمي ) وهو ابن خال والدي ، وبيتنا يقع خلف بيته ، وكنا نسمع احياناً صوت حسام الدين المرتفع لضعف في سمعه عندما ينادي صبيح نجيب قبل دخوله الدار. ومن سكنة المحلة ايضا القاصد البابوي في بغداد ، ومحمد علي محمود ،وحمدي الباجه جي ، ويقع خلفه بيت (رجينة باشا ) الشهيرة يومذاك اخت المطربة سليمة باشا . عندما سكنا محلة حسام الدين في سنة 1934 ، كانت المسافة طويلة بينها وبين مفرق الكرادة ـ داخل حيث ( نصب كهرمانة حاليا ) ولايوجد بناء في تلك المسافة سوى نادي العلوية ، كما لا يوجد بناء الى منطقة الباب الشرقي عبر بستان الخس سوى بناء ( واي ام سي أي ) وهي جمعية الشبان المسيحيين.
ومن ذكرياتي في هذه المرحلة من حياتي عندما كان والدي متصرفاً للواء الرمادي، مرور قطعات الجيش البريطاني عبر مدينة الرمادي متجهة الى فلسطين وشمال افريقيا لقتال الالمان بقيادة رومل القائد الالماني الشهير في الحرب العالمية الثانية . كما اتذكر رحلة الصيد انا واخي قحطان بصحبة والدي وصديقه الشيخ عبد الرزاق علي السليمان شيخ مشايخ الدليم واحمد عجيل الياور شيخ شمر ، وفيها رأيت التحدي بإصابة الهدف بواسطة بنادق القتال ، وقد برع الشيخان ولم يزالا شابين . وبعد الغداء انطلقت السيارات الاربع لصيد الغزلان ، وعند التقرب من الغزلان المتجمعة عند منخفض للمياه في بادية الشام، اسرعت تلك الحيوانات الجميلة بالفرار في اتجاهات مختلفة وتبعتها السيارات بكل سرعتها ، وعند العودة لجمع الصيد تبين ان السيارات قطعت مسافات طويلة واصبح من الصعب تجمع السيارات من جديد ، وأدركنا بأننا قد أضعنا بعضنا البعض وسط تلك الصحراء الرملية الواسعة ، ولم نلتقِ الا ليلا عندما عادت السيارات الى بيت الشيخ عبد الرزاق علي السليمان .