صفاء ذياب.. شاعر الفوتوغرافيا ومكتشف رمزية المهمل وشعرية التفاصيل

(2-5)
ناجح المعموري

تتكون الحركة ، خاصية سرية في الفوتغراف . الماضي موجود ، حضوره الثقافي واضح وجوهري ، انه يلون لحظته بالعتاقة التي تترصدها العين وتتصيده بالمراقبة الحساسة ، فتكشف فيه وعليه التآكل فيترك له أثارا على سطح خشبة الباب . هذا ما يهرع إليه ويتابعه صفاء ذياب، لأنه يخاف عليه من الزوال التام أو الانحطاط الكلي ، على الرغم من انه يعلم جيداً بان الماضي حاضر ، ولا يموت ، انه يمنح الحاضر نقيضه ويبدأ بينهما الجدل . الحاضر مقبول في لحظته الجديدة الكلية والشاملة .
الحاضر في صور متناقضة كذلك في صور الحدائق يزهو . وفي أكوام النفايات يتكدس، في الغايات لمظاهر هائلة اختصرها الفنان بتفصيل عميق للغاية وترك حصان العربة ساقطاً وكأنه يموت .
الحاضر يزهو ولا نراه ، يفاجئنا بتفتح البرعمة ومن بعد الانغلاق ، هو هكذا بحركة مخفية وسرية ، تخفي كثيراً من السرديات الجميلة / الملونة ، والأخرى مثيرة للاستفزاز يتشكل عبرا التفاصيل المستمرة ، دائمة الحركة . الكينونة مفتوحة لاستدعاء مكانتها ، كل هذا بواسطة الفوتغراف الذي هو لسان الوجود ، صوته مسموع / صارخ / هامس برمزياته الأسطورية الموزعة بهدوء فوق أوراق الزهر بالعقائد والطقوس المتبدية بالفخاريات والأيقونات نماذجاً حاوية على مقدسها للتعبير عنه بإلية مبتكرة ، مانحة الإلهة وجوداً رمزياً ، ممتداً ، مخترقاً ماضيه ، ليصل الى حاضر جديد . تزدهي به الالوهة المذكرة والمؤنثة . زهريات طاغية في فوتغرافيات صفاء ذياب تبدو كأنها معنية بالدلالة الأسطورية المستمرة حاضرة منذ ستة الألف سنة . أية طاقة رامزة تلك التي عاشت زمناً هائلاً وارتضت أن تكون مروية لتاريخ بعيد جداً . والتقاطات الفنان لها مدروسة بعناية ، معروفة ، وخفية وكلاهما يولدان الإثارة والمتعة فمن شتلة الحديقة الممتدة نحو الأعلى بجذعها وإنفراج ذراعين نحو اليمين والآخر باتجاه اليسار وغصن صغير يمتد بين الذراعين ، ينتهي بوردة حمراء ، تمردت على كتمها وانفرجت قليلاً بمعناها الايرويتكي .
تمنح الملاحقة للصورة شعريتها وتتوجها بالدهشة المكتشفة الصورة فعل فردي ، مثل الشعر الشفاهي ، وكلاهما نتاج عوامل عديدة ، بيئية وجمالية هما محكومان بلحظة البديهة ربما يتبادر للذهن سؤال حول علاقة الفوتغراف والشعرية ؟ هذه الميزة الجوهرية الخاصة بالأنواع والأجناس كلها ، من الخصائص المانحة حياة وبقاء للعمل الأدبي / او الفن ، وهي ـ الشعرية ـ تتشكل في اللغة ولأنها صوغ لساني فيه المجاز / والرمز والتخيل . الشعرية كامنة في الأنواع والفنون وهي باختصارات جابر عصفور ، اسم جامع لكل ما يتصل بخلق وإنشاء الأعمال التي تتخذ من اللغة جوهراً وأداة لها ، وبتعبير أخر ، فرع من فروع الدراسات الأدبية ، يبحث عن قوانين الإبداع الأدبي والخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل الأدبي ومن ثم تصنع أدبيته « وإذا عرفنا الأدبية هي الشعرية ، فنحن لا نستطيع تركيزها في القول فقط ، وإنما هي حاضرة وباتساع أكثر في الفنون كلها ، نستطيع العثور عليها في الشوارع والأرصفة ، المقاهي ، المطاعم ، الأزياء ، طريقة الكلام ….الخ أنها الطاقة الداخلية التي بإمكانها التوجه نحو المتلقي عبر الجمال وشحنات الرضا والعواطف . وان تنوع الفحص والقراءة هو شكل من أشكال تمظهر الشعرية.
قلنا بفردية الصورة آلية صنعتها التي جعلت منها ماهية لا تفترق عن ماهيات الجمال في الفنون الأخرى ، لا بل هي أكثر أهمية من غيرها ، فالتفكير بدون صورة مستحيل كما قال أفلاطون ، وهي كلها رمز ، لأنها تؤمي لشيء آخر ، هو المعيوش الذي تدل عليه ولا تنحرف بالدلالة على شيء آخر غيره . هذا الفهم أو المعرفة لا يتأتى إلا بالوعي الجمالي الذي يسبغ كثيراً من الكلام على الصورة . والحياة تحاكى في العمل ، ولو لم تكن محاكاة فأنها غير موجود ، لكن هذا الرأي لا يغلق الباب أمام الدنو من الصورة أكثر ، بدعوى أنها نسخ للواقع . هذا كلام غير صحيح ، حتى التطابق التام ، لا يعطل الحفريات في الصورة . لأنها لا تحوز صفتها الصورية إلا عبر العين البصاصة الكاشفة عن الجمال المتلاشي / المذوّب . الذي يعاود تكونه علامة في الصورة . مركزاً لها وكما قال غادمير أن الاختلاف بين الصورة والعلامة أساسا انطولوجيا . لا تختفي الصورة بالإشارة الى شيء أخر ، بل هي تشارك في وجودها الخاص ، فيما تمثله . ولا ينقص هذا التشارك الانطولوجي الصورة وحسب وإنما يخص ما ندعوه رمزاً . فلا الرمز ولا الصورة يدلان على أن شيء غير حاضر فيها هي نفسها وفي الوقت نفسه . ومن هنا تنشأ مشكلة التمييز بين نمط وجود الصورة ونمط وجود الرمز .
الماضي باق ، يتكاثر ولا يتناقص ، متروكاته كثيرة وهائلة ، موجود أمامنا أينما ذهبنا ولا نستطيع الفكاك منه ، لأنه فينا ، في الذاكرة وفي خزانة مروياتنا التي لا تنضب ، بل هي مثل عين الماء صافية ورائعة انه ماء الآبسو الذي يستهوينا ، بالعودة له .
الفنان يسجل الماضي ، بعينه وبالكاميرا ، يكتبه ويطرد عنه الزوال ، ويستمع لتوسلاته من اجل الحضور والبقاء ، وإذا ترك وحيداً يموت وينحدر نحو العدم والفناء ، هذه الخلاصات هي قراءاتي لفوتغرافيات صفاء ذياب ، المولدة لاندهاشي . انه جوهر العلاقة مع الصورة ، مثلما هو مصدر الثقافة كلها . الثقافة محفزة للمتعة وببساطة أن هذا أمر جميل ، وفي غاية الجمال ، أن نكتشف ونرى ونسمع من يقول لنا لماذا ، وكيف يمكن لنص معين ان ينتج العديد من التأويلات الجديدة كما قال أمبرتوايكو .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة