الحلقة 5
د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الفصل التاسع
من الذكريات مع صدام حسين
كبريت المشراق بين عماش وصدام
قبل مجيء البعث الى السلطة عام 1968 كان مشروع استثمار مناجم كبريت المشراق-قرب الموصل ضمن جدول اعمال الحكومات المتعاقبة في العراق لسنوات عديدة . وكان الرأي العراقي منشغلا فيه على الدوام بوصفه عنصرًا مهمًا من عناصر الثروة المعدنية في البلاد ، بعد النفط وبكونه خارج نطاق المشكلات مع شركات النفط الأجنبية . لهذا كان استثمار الكبريت استثمارًا وطنياً يمثل هدفاً وقفت وراءه جميع القوى السياسية في العراق من اجل تنمية الايرادات وجعلها خاضعة لمصلحة البلاد الا ان الجانب السياسي لهذا المشروع كان يمثل، في اقل تقدير، احد اهم الاسباب في تأخره. فقبل عام 1968 كان المشروع يدور في دوامة التردد.
وكما كان معروفاً آنذاك فلابد من اعتماد استثمار الكبريت اساساً على التعاون مع جهة اجنبية تمتلك وسائل فنية للاستثمار، وتلك محصورة في حينه بجانبين: اميركي وبولندي.
لم يكن التعاون مع جهة اميركية مستساغاً من الرأي العام العراقي، كما لم يكن التعاون مع الجانب البولندي مستساغاً من الواجهات الغربية المعنية. ومن هنا ساد التردد الحكومي في العراق.. ومرت الاعوام الواحد بعد الاخر بانتظار اتخاذ القرار.
بعد مجيء البعث الى السلطة كان كبريت المشراق على طاولة البحث بطبيعة الحال. وكانت الظروف السياسية في البلاد تدفع بالتعاون مع دول الكتلة الاشتراكية الى الامام. فقرر مجلس قيادة الثورة فتح باب التعاون مع بولندة بشأن استثمار الكبريت وغيره من المسائل التجارية والاقتصادية، وتشكل الوفد العراقي في نيسان/ابريل 1969 برئاسة صالح مهدي عماش الذي كان آنذاك نائبًا لرئيس الوزراء ووزير الداخلية والمشرف على الجوانب الاقتصادية في البلاد وكنت عضواً في الوفد.
بعد الوصول الى وارشو وافتتاح جولة المفاوضات العامة مع الجانب البولندي توزع العمل على لجان، حيث تولى الدكتور رشيد الرفاعي وزير النفط والمعادن آنذاك رئاسة الجانب العراقي في اللجنة الفرعية الخاصة بمشروع الكبريت.
خلال المفاوضات برز خلاف كبير حول حجم الرسوم التي طالب بها الجانب البولندي لقاء استخدام طريقته الفنية الخاصة باستثمار الكبريت، والتي تعد براءة اختراع خاصة به، اقتضى حسمه ايامًا عديدة، وكاد الموقف التفاوضي ينفجر بسببه.
ويمثل مبلغ الرسوم فقرة مستقلة يتعين الاتفاق بشأنها ضمن اتفاقية التعاون العامة الخاصة بالمشروع.
في البدء طلب الجانب البولندي 20 مليون دولار لقاء استعمال براءة الاختراع، الا ان الدكتور الرفاعي استطاع، بقوته التفاوضية وصبره الطويل، ان يخفض المبلغ تخفيضاً جسيماً ادهش بقية المفاوضين، حيث اوصله الى نحو مليون دولار.
بعد التوقيع على اتفاقية استثمار مناجم الكبريت مع الجانب البولندي-مؤسسة (سنتروزاب) الحكومية-في الاول من مايس/مايو 1969 عاد الوفد ورئيسه عماش الى بغداد منتشيا بتحقيق هذا الانجاز، الذي اظهره شخصية ناجحة انهت حالة التردد السابقة تجاه المشروع وثبتت دعامة بارزة في الاستثمار الوطني للثروة المعدنية.
عبر صدام بنحو او بآخر عن مشاعر ذاتية من عدم الرضى لهذا التطور، لالتصاق مشروع استثمار الكبريت باسم عماش، وخشي-بوصفه مشرفاً على الجوانب الاقتصادية في البلاد-التصاق انجازات اقتصادية مقبلة اهم باسم الرجل مستقبلا.
وكان تأميم النفط محط الانظار منذ ذلك الحين، فأصبحت تللك المخاوف والمنافسة نقطة مهمة اضيفت الى اخرى على جدول اعمال صدام لإخراج عماش من مسرح ادارة العملية السياسية في العراق.
وبرغم نجاح صدام في ايلول/سبتمبر1971 بإزاحة عماش من مجلس قيادة الثورة ومناصبه وابعاده كسفير الى الاتحاد السوفياتي، الا انه بقي سنوات عدة ناقماً عليه ومحاولا، كل حين التقليل من اهمية مشروع الكبريت الذي انجزه فيما كان الانتاج قد بدأ فعلا اوائل عام 1972.
وارجح بالذاكرة الى اجتماعات (لجنة المتابعة لشؤون النفط وتنفيذ الاتفاقيات) التي يترأسها صدام وكنت عضوًا فيها، حيث كانت اللجنة تعقد اجتماعاتها في مكتب صدام وعلى جدول اعمالها المشاريع المهمة وتقارير المتابعة وتطورات السوق النفطية واسعار المواد المعدنية. لكنني كنت الاحظ ايعاز صدام الى عدنان الحمداني-سكرتير اللجنة-ينقل تحريري لأي خبر يشير الى انخفاض سعر الكبريت في السوق العالمية الى مجلس قيادة الثورة للعلم. ولم يكن الغرض من ذلك يتجاوز محاولة صدام المستمرة في الحط من شأن مشروع الكبريت وضمور نتائجه.
تزايد حقد صدام إثر اتفاقية الجزائر
كان الرئيس الجزائري هواري بومدين يستقبل شخصياً في مطار الجزائر الملوك والرؤساء الذين كانوا يصلون تباعًا لحضور مؤتمر القمة لدول الأوبك في شهر أذار/مارس 1975. نزل صدام من الطائرة-وكنت عضوًا في الوفد المرافق-وبقي جالساً في قاعة الاستقبال على غير عادة الرؤساء الاخرين ممن كانوا يتوجهون الى محل اقامتهم مباشرة بعد الاستقبال.
كان التنسيق قد تم مسبقاً مع بومدين ويقضي بانتظار صدام حتى هبوط طائرة شاه ايران. وهكذا تم اللقاء الاول وجها لوجه بين صدام والشاه بحضور بومدين وسط دهشة اعضاء الوفد العراقي-او غالبيتهم في اقل تقدير. والذي كان معزولا عن ما خطط له مجلس قيادة الثورة وانتقال موقفه لحل المشكلات مع ايران من حالة الصراع الى التفاوض. فمنذ نشوء الازمة بين البلدين وحتى ذلك التاريخ عبأ العراق حملة سياسية واعلامية واسعة في الداخل والخارج، وسخر مؤتمرات وطنية واقليمية للتنديد والوعيد وكأن التفاهم حول حلول معقولة اصبح طريقا مقفلا.
آخر المؤتمرات العربية كان في بغداد-قبل شهر واحد فقط من اللقاء المباشر بين صدام والشاه-تحت شعار (مؤتمر المنظمات المهنية والشعبية لأسناد العراق ضد الاعتداءات الامبريالية والرجعية الايرانية) وذلك لفترة 1-3 شباط/فبراير 1975. وكانت القيادة العراقية قد كلفت (لجنة ارتباط المنظمات) بتنظيمه وعهدت الي برئاسة تلك اللجنة. كنت آنذاك رئيساً لجمعية الاقتصاديين العراقيين الى جانب مسؤولياتي الرسمية في الدولة.
افتتح صدام المؤتمر نيابة عن احمد حسن البكر في القاعة الكبرى لجامعة المستنصرية في بغداد، التي غصت بمئات المشاركين من المنظمات المهنية والسياسية العراقية والعربية والصديقة، وجاء بكلمته المسهبة ما يلي:
(لقد مارس النظام الايراني اعتداءات متكررة على القطر العراقي تمثلت بإلغاء معاهدة عام 1937 من جانب واحد متجاوزاً بذلك القوانين والاعراف الدولية مما خلق اوضاعاً متوترة في منطقة شط العرب وعلى طول حدودنا الشرقية… ومنذ ذلك الحين والنظام الايراني يصعد نهجه العدواني ضدنا بالاعتداءات العسكرية المتتالية…ويتدخل النظام الايراني منذ سنوات عديدة في شؤوننا الداخلية بنحو مباشر وسافر وواسع النطاق بدعمه للجيب العميل في الحركة الكردية…والقوة العسكرية التي تبنيها ايران في الوقت الحاضر دليل آخر على هذا الدور الذي تلعبه الحكومة الايرانية نيابة عن الامبريالية وبدفع واسناد منها…ان كل القوى العربية سواء من مواقع الحكم او على صعيد النضال الشعبي والتي تعلمت الدروس من اساليب الامبريالية مطالبة بأن تدرك هذا المخطط وان تحبطه).
في هذا السياق توالت كلمات المشاركين في المؤتمر طيلة ايام ثلاثة . وكان من بينهم السيد بكر البشدري رئيس المجلس التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي-في كردستان-حيث جاء في كلمته:
(..سعت الرجعية الايرانية عبثاً لإفشال تجربة الحكم الذاتي وخلق الصعوبات امام هذا الحكم خوفاً على مصالحها ومصالح اسيادها…ان القوى الاستعمارية والرجعية الايرانية لا تمد فلول الجيب العميل المدحورة بالمال والسلاح حبا بالشعب الكردي وحرصاً منها على تمتعه بحقوقه). بعد شهر واحد من هذه التعبئة واذا بصدام يلتقي الشاه وجهاً لوجه في الجزائر.
هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث
التعليقات مغلقة