نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الحلقة 2
الفصل الأول
الأسرة والنشأة
العائلة ، مرحلة الطفولة ، أختي وإخوتي ، كبار رجال العائلة ، مرحلة الإعدادية ،
مرحلة كلية الهندسة

العائلة
نشأت في أسرة عراقية بغدادية عريقة ، لقبت بأسرة المدفعي ، اذ كان جدي ومن بعده والدي من ضباط صنف المدفعية في الجيش العثماني في الهزيع الاخير من العهد العثماني في العراق . وكنت أعرف ان جدي من أصول كردية ، وان زوجته من أصول عربية ، غير اني لم ادرك في نشأتي فوارق بين تلك الاصول التي يعج بها المجتمع العراقي منذ قرون طويلة . كما لم اجد في أسرتي من يتحدث عن ذلك إلاّ في لحظات قصيرة وبصورة عرضية ليس الا ، فقد كان الانتماء الى الموطن هو الغالب على جميع الانتماءات الاخرى ، فلا حديث عن عنصر او طائفة او مذهب الا لماما ، ثم عرفنا تلك الامور بعد توسع المعرفة الذاتية . اما ما قيل عن انقسام واضح وحاد في المجتمع العراقي ، فليس موجودا إلا في أذهان من تاجر بهذه الفوارق وجعلها معابر الوصول لأهداف سياسية او شخصية . واود ان اؤكد ان تاريخ العراق الحديث ، وقد ادركنا منه بعض مراحله الاخيرة ، لم يعرف حزبا او كتلة او حركة سياسية رفعت شعارات خاصة بمذهب محدد الا في السنين الاخيرة ، بعد ما ارتفع نجم ما يسمى بالإسلام السياسي ، وبدعم غير خاف من دول جوار العراق . ولم نعرف من الاحزاب الا ما هو عراقي ، ولم نعرف احزاب الطوائف التي مزقت البلاد وشتتت العباد ! لقد عشنا وترعرعنا في مجتمع متعدد القوميات والمذاهب والنزعات ، وذلك من طبيعة الاشياء في بلد شهد حضارات متعددة على مدى تاريخه الطويل ، وشهد من عهود الاحتلال الاجنبي في القرون المتأخرة فترات طويلة ، ولعل في بقاء مقدسات ومعالم القوميات والمذاهب جنبا الى جنب في مدن العراق الكبيرة على مدى التاريخ ، الدليل الثابت على ما أذكره في هذه المقدمة . ولم يكن هذا الامر محصورا بأسرٍ محددة ، بل كان الغالب في معظم أسر المدن الرئيسة في العراق ، لقد كانت عملية المصاهرة بين مكونات العراق الاجتماعية ، ظاهرة اصيلة وثابتة ، جديرة بالتنويه والاعجاب ، لم يستطع ملوك الطائفية المقيتة والقومية المتعصبة، الطارئون على المجتمع العراقي ، تشويه هذه الحقيقة الرائعة .
يعود جدي علي اغا الى اصول كردية ، فهو من قبيلة دزئي الشهيرة في اربيل وانحائها ،وقيل انها نزحت من قرية ( دزئي ) في كردستان ايران قبل قرون . بعد ان نقل لأسباب عسكرية ، استقر ضابط المدفعية علي محمد اغا دزئي في بغداد ، في محلة الفضل ، وتكونت له علاقات طيبة مع اهالي المنطقة ، ولاسيما اسرة احد الضباط من اولاد الحاج حبيب العزي الذي ينتمي الى عشائر عربية عريقة, فتزوج ابنته ( بزمي عالم ) ، وولدت له اربعة اولاد وبنت واحدة ، كان اكبرهم محمد امين زكي ، محمد صالح علي ، ثم حسن علي ، زكي علي ، وامينة التي تزوجت من محمود رامز ، الشخصية السياسية المعروفة .
كان والدي (حسن فهمي ) الابن الثالث لعلي اغا ، وكانت ولادته في الوثائق الرسمية في 13 نيسان 1885 ، ونشأ في محلة الفضل ، وهي من أعرق المحلات البغدادية آنذاك و تحمل كافة سجايا المجتمع البغدادي وتقاليده المتوارثة في جميع مناحي الحياة وصورها . وتوفاه الله في سنة 17/11/1946 .

اكمل الابتدائية والثانوية الرشدية ببغداد ، ثم دخل مدرسة صنف المدفعية في اسطنبول
وتخرج فيها ضابطا مدفعيا ، واشترك في معارك الحرب العالمية الاولى ، ومنها معركة ( جناق قلعة ) الشهيرة التي انتصر فيها العثمانيون على الاسطول البريطاني، وقد اصيب بجرح في هذه المعركة ، بقيت آثاره في ظهره الى النهاية . وقبل انتهاء الحرب انخرط مع عدد كبير من الضباط العراقيين في الثورة العربية التي قادها شريف مكة الحسين بن
علي .والتحق بجيش الحكومة العربية في دمشق بقيادة الامير فيصل بن الحسين .
وبعد القضاء على تلك الحكومة من قبل الجيش الفرنسي بقيادة ( غورو ) عاد الى العراق مع صديقه الضابط جميل المدفعي عن طريق تلعفر، وانضم الى الجيش العراقي الناشئ ، ونسبا الى سلك الشرطة وعين مديرا لشرطة قضاء سامراء ثم مديرا لشرطة الديوانية فكركوك ( 1927 )، ونقل الى بغداد مديرا لمدرسة الشرطة ثم مديرا لشرطة البادية ومدير الحركات في الشرطة العامة ، حتى عين عام 1937 مديرا عاما للشرطة .
تزوج والدي للمرة الاولى من(رمزية) شقيقة زوجة عمي الكبير محمد امين زكي ، من اسرة الهرمزي والنفطجي التركمانية في كركوك . وقد توفاها الله بعد سنة واحدة من زواجها ، ولم تنجب .
وفي عام (1925) ، تزوج والدي من ابنة الشيخ نوري اسماعيل الشيرواني ( 1866 ـ 1942) ، وهو من كبار علماء الدين في بغداد ، نزح من مدينة شيروان مازن وهي مدينة صغيرة تقع قريبا من قضاء (ميركه سور) في راوندوز التابعة لأربيل . وكان مع شقيقه الشيخ طه الشيرواني من اشهر علماء الدين ومدرسيها في بغداد ، وقد تخرج على أيديهما عدد كبير من الاسماء البارزة في المجتمع .
وفي السنوات التالية عين متصرفا لعدد من الألوية ( المحافظات ) العراقية ، وهي الرمادي والحله والديوانية وبغداد وكركوك التي توفي فيها في تشرين الثاني 1946 . اذكر هذه الوظائف المرموقة هنا ، لأن أسرته منذ زواجه في منتصف العشرينات كانت تصاحبه في تنقلاته وتقيم معه ، وكان ذلك من التقاليد القديمة لموظفي الدولة ، ولعلها ظلت الى يومنا ، وفيها تتعرف اسر الموظفين على اوضاع البلاد وتقاليد الناس المختلفة ، وتتوطد صلاتهم فيما بينهم . وكثير من الأسر استقرت بعيدا عن مناطقها الاولى واصبحت تعرف بمناطق استقرارها الاخير . تعرفنا على الكثير من الزملاء والاصدقاء في انحاء العراق مما ساعدنا كثيرا على تفهم طباع مجتمعنا شمالا وجنوبا ، تعرفنا على المجتمعات المحلية بطباعها وتقاليدها ولهجاتها وشخصياتها وشيوخها وأحوالها الاخرى ، منذ الثلاثينات في القرن العشرين… هكذا اراد والدي ان ننشأ ونعيش .. وهكذا اردنا ان نعشق الارض التي عشنا عليها نحن وأسلافنا .
وكان تأثير والدي وأعمامي ووالدتي وإخوانها وأخواتها علي وعلى اشقائي كبيراً ومهماً سأذكره فيما بعد.
أرسل عمي امين زكي برقية الى والدي حيث كان مدير شرطة كركوك بالكلمات التالية ( نهنئكم بأخٍ لقحطان ) اجاب والدي بكلمات قصيرة كعادته ( اهلا وسهلا بهّشام ) .
ولدت في (اعظمية بغداد في 28 تشرين اول 1928) ، وادركت الحياة وانا الابن الثاني من خمسة اخوة واخت واحدة ، هم قحطان وهشام وسهام وعصام وإلهام ، وميادة ، ولعل في اسمائنا طرافة وندرة في سنوات ولاداتنا ، واذكر هنا ان شقيقتي ( ميادة ) كانت تسميتها باقتراح من الشاعر معروف الرصافي ، وكان على
صلة وطيدة بوالدي ، ولعله اطلق
لأول مرة على فتاة في العراق.
كان ابي يحب الادب كثيرا ، ويقرأ ما تقع يداه عليه من كتب الادب والتاريخ ، فكانت علاقاته مع الادباء والشعراء وطيدة ، وكان مجلسه يقترب من الادب كثيرا ولا يخلو مرة من اديب أو شاعر او كاتب او صحفي ، كما ان والدتي هي الاخرى تشاطره هذا الاهتمام ، إلا أنها شغوفة بالتاريخ الحديث للعراق ولما له علاقة بالمتغيرات داخل العراق، وكثيرا ما حدثتنا عن وقائع تاريخية عاصرتها او سمعت بها من والدي. واود هنا ان اذكر انه كان معجبا بالشعب الانكليزي ، وتعلم لغتهم على يد معلم لبناني ، وكان له العديد من الاصدقاء البريطانيين كالسيدة فريا ستارك .
كان والدي هادئ الطباع ، الا انه كان شديدا وحازما في المواضع المهمة والخطيرة ، بدلالة ما عهدت اليه الحكومة من نزاعات عشائرية او مشاكل امنية في انحاء العراق ما اكده مرارا مشاركنا في العيش ( قدري ) الشرطي السائق الذي رافق والدي في وظائفه وتنقلاته ، وبقيت صلته بالأسرة الى وفاته في السبعينات . كما كان والدي لا يبخل علينا بالنصائح والتوجيهات التي تبعدنا عن مواضع الزلل ، وفق تجربته العسكرية والوظيفية . وتعلمنا منه احترام الاخرين مهما كانت صفتهم ، وكنت اشعر باحترامه الكبير لخالاتي : لبيبة ام لائقة زوجة عبد الله السلام ، ونسيبة ام عائشة زوجة شوكت سري ، كانت عائشة ابنة خالتي الاكبر بين جيلنا ، وقد تزوجت من السيد هاشم الآلوسي بعدئذ والذي تزوج اخي عصام ابنته هناء الآلوسي. اذكر ان علاقته ببنتي عمي امين زكي ، وهما سانحة ولمعان ، كانت علاقة صداقة وادب ، اذ كان يبادلهما الحديث عن الشعر والشعراء وقضايا الثقافة المختلفة .
كان صاحب مجلس ادبي عامر ، وصلات واسعة بأدباء العراق ، ولعل معروف الرصافي والملا عبود الكرخي وحبزبوز كانوا الاكثر صلة . واذكر ان والدي رقد في المستشفى الملكي في الباب المعظم فزاره الملا عبود الكرخي ، كما سمعت عن محاولاته اصلاح ذات البين بين الرصافي والصحفي ابراهيم صالح شكر . ومن ذكرياتي عندما كان والدي راقدا في المستشفى الملكي في الباب المعظم ، وزاره الملا عبود الكرخي وجلس على كرسي عند رأس والدي في الطارمة الخلفية المطلة على حديقة المستشفى ، فأخذ الكرخي يلقي من شعره الشعبي على والدي وتحولت الزيارة الى جلسة طريفة تخللتها احاديث هازلة وضاحكة من الانطباعات والتعليقات والذكريات . وكانت ادارة المستشفى قد اخرجت أسرَة المرضى الى الطارمة الخارجية المسقفة للنوم ليلا بسبب حرارة الجو في فصل الصيف ، وعدم وجود وسائل تبريد عدا المروحة السقفية التي اعتادت ادارة المستشفى وضع قوالب الثلج تحتها في أوعية معدنية لتبريد الغرفة .
ومن احاديثه مما سمعته منه عن بعض جوانب حياته المهنية ، قيادته في منتصف ثلاثينات القرن العشرين لفرقة استكشاف وفتح طريق الحج البري ، من منطقة عرعر على الحدود العراقية السعودية ، ورافق والدي في هذه المهمة الصحراوية المهندس شوكة منير والدكتور سلمان فائق وآخرون من اصحاب الاختصاص ، اضافة الى العمال والشرطة ، كانت المهمة تتضمن تحديد مسارات الطريق الصحراوي ووضع الاشارات الثابتة وانشاء القناطر على الأودية والاتصال بشيوخ العشائر التي يمر الطريق بمناطقهم . وقد التقت البعثة الاستكشافية بعاهل السعودية الملك عبد العزيز بن سعود ، عند الوصول الى مدينة جدة ، وظلوا في ضيافته طيلة مكوثهم هناك ، ثم اهداهم في نهاية مهمتهم الكثير من الهدايا النفيسة . وكثيرا ما كنا نسمع منه ذكرياته عن مشاركاته العسكرية كمعركة جناق قلعة في الحرب العظمى الاولى وحوادث الآثوريين وغير ذلك .
واذكر انه احيل الى التقاعد وهو متصرف لواء الرمادي ( كان يسمى ايضا لواء الدليم )، وبعدها بفترة وجيزة عرض عليه منصب مدير في شركة آرامكو النفطية في المملكة العربية السعودية ، ولا اتذكر هنا سوى انه هيأ نفسه للسفر الى وظيفته الجديدة في مدينة جدة مستصحبا معه سيارته وسائقه الشخصي قدري وخادمنا عواد ، وبعدها اعيد الى الخدمة الحكومية ،وصرف النظر عن العمل في ادارة شركة آرامكو .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة