نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن اسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف ان نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الحلقة 1
هذه المذكرات
لاريب ان كتب المذكرات او اليوميات التي دأب على نشرها العاملون في شتى مناحي الحياة العامة , اصبحت اليوم على الرغم من العثرات وطغيان العاطفة عليها , من المصادر التي اخذ الباحثون اعتمادها . ويبدو ان الامر اكثر جلاءً في بلد مثل العراق , فقدت وثائقه وخربت مؤسساته الوثائقية بنحو أو بأخر .
اعتقد أنه من حق المواطن الاطلاع على تجارب الاخرين ليستلهم منها العبر والدلالات , كما أن من حق اي فرد ان يسجل مذكراته حفظاً لها لدى ابنائه أو الاجيال التالية .
منذ أن تخرجت من كلية الهندسة سنة 1950 , وولوجي معترك الحياة المهنية في اعمال هندسية مختلفة في خارج مدينتي بغداد في الخمسينيات حيث لم يتوفر في العراق من المختبرات الهندسية والمعاهد السانده للمهندسين . حتى مشاركتي الفاعلة في المشاريع الهندسية الكبرى وما آل اليه الأمر فيما بعد , وما واجهته من صعابٍ ومأسٍ , ستطلع عليها في هذا الكتاب , ارى نفسي مدفوعاً الى جملة من الحقائق الموضوعية , سجلتها في الصفحات الاخيرة , ومن ذلك حديثي عن إنشاء مجلس لإعمار العراق , بعيداً عن الغرف المقفلة في الوزارات والهيئات الحكومية التي استشرت فيها مظاهر ماسمي بالفساد الاداري . لقد اسهمت في الخمسينيات في بعض مشاريع مجلس الإعمار فأدركت اهمية هذا المجلس وجسامة اعمالة , فلا غرو ان كتبت عنه ودعوت الى إحيائه لبناء عراق جديد .
كنت مؤمناً – ولم أزل ـــ أن العراق بحضارته القديمة التي قدمت للتاريخ الانساني الشيء الجزيل , وبما ضم فوق أرضه او تحتها من أثار لحضارات قديمة وخيرات وثروات وفيره وبما يمتلكة مواطنوه من قدرات فاعلة , جدير بأن يكون في طليعة دول الشرق نهضة وازدهاراً وخدمة للانسانية … وليس هذا ضرباً من الخيال , بل من الحقائق التي اكتشفها الاخرون منذ قرون.
وأني اذ اقدم للأجيال الطالعة سيرتي وتجاربي ملخصة بفصول الكتاب هذا , وما تخللها من ذكريات ومشاهد جميلة أو بائسة مع تطور حياتي في المجتمع عبر العقود عن طريق الصور , أود ان أوكد , ويشاطرني الكثير من أبناء جيلي , على السعي نحو بناء الوطن ونهضته في مختلف مناحي الحياة , كان الهدف الرئيس لنا بكل ماتعنية العبارة . ان التطلع الى عراق جديد ودولة متحضرة كان هاجساً يغمرنا في كل افعالنا . وليس هذا حديثاً عابراً او شعوراً طارئاً , بل حقيقة قائمة …
لقد وجدتُ ان مسيرتي العلمية والانسانية مليئة بالحوادث والوقائع الجديرة بالتسجيل والاعتبار , وان الواجب الوطني يقضي بأن تطلع الاجيال الطالعة على مثل هذه التجارب .. وأني اشهد الله على ذلك , كنت اميناً في اتخاذ القرارات وفي نقل الحوادث والذكريات بلا مبالغة او تزييف , ولعل ذلك ينبع من طبيعة شخصيتي التي جبلت عليها .
أن سـبعــين عامـــــاً من العمل الهندسي الجاد , هي ــــ بلا شك ــــ قد شهدت مداً وجزراً , وآمالاً واحلاماً , وافراحاً وأشجاناً , ابتسامات ودموعاً … هذه الحياة وتلك هي طبيعتها , مضحكة ومبكية , واهبة وسالبة .
فأعتذر أن زاغ قلمي اوقسوت في الوصف . ويكفيني فرحاً أن يجد من يستدرك مصوباً او مقيلاً لعثراتي .

هشام المدفعي
تشرين أول 2016
بغداد

عاشق الحياة والتقدم الانساني
مهدي الحافظ
انه ” هشام المدفعي ” ، الذي زيٌن كتابه الشهير ” نحو عراق جديد ” . فقارئ هذا الكتاب يندهش حين يرى سيرة المدفعي هذه حافلة بأشياء قد تبدو متناقضة احيانا,ولكن النتيجة كانت سيرة مظفرة من دون شك .
نشأ في احضان اسرة متجانسة ومحبة للخير والثقافة والادب . فكان الكاتب وفيا ، كل الوفاء, لذكرى والده ووالدته التي رعت أبنائها بصورة تبعث على الامل والثقة والتطلع الى مستقبل زاهر .
لم اكن اعلم بأن والده الفقيد كان صديقاَ ” للرصافي” و”عبود الكرخي” و”حبز بوز” وسواهم من اهل الادب . ولم اعلم ايضا ان والدته الفقيدة كانت في غاية الحرص على مستقبل ابنائها وتوجيه ادارة المنزل بصورة سليمة وتوصلت الى نتائج باهرة .
كانوا اربعة اخوان واخت خامسة , ويشكلون باقة متجانسة ومتكاتفة من حيث الخبرة والاختصاص والتطلع لحياة جديدة . وجمعتهم معارف بديعة وفريدة بين العمارة والهندسة الانشائية والعلوم والغناءوهندسة الديكورات.
هشام المدفعي هو انموذج للسلوك الأنساني والحضاري الرفيع وداعم للمبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان والمواطنة ,وتكافؤالفرص بين المواطنين من دون تمييز ومشجع للتسامح الديني
فهو يحب الناس والطيبين منهم من النساء والرجال ، ويهوى الادب والثقافة والفنون ويسعى لانهاض وطنه وتخليصه من عوامل الضعف والتناحر والتخلف .
هذا نموذج للانسان الجديد الذي يشكل نواة التغيير الشامل في البلاد . فمع حرصه على البناء والاعمار ، فهو ايضا صديق للمثقفين ومحبي الاثارالتاريخية . واثبت قدرته على صنع الكثير من اجل مستقبل واعد في العراق . ثم انه خزين معلومات ودراية عن احوال العراق وشؤونه ويندر ان تتوفر هذه في شخص مثله بهذا المعنى .
ولعل الانجازات الكبيرة التي رواها في الكتاب تمثل مسيرة مميزة عن همته وحبه لحياة رخية لشعبه ووطنه . ومع تعرضه لصدمات ومعاناةجمة بسبب الاوضاع السياسية الشاذة في البلاد أنذاك ، الا انه كان ثابتا على مبادئه وقيمه الانسانية .
لا استطيع ان انسى بل اؤكد باستمرار بأنه الصديق الاصدق والرجل الكبير الذي نعتز به ونتمنى له التوفيق والخير الدائم .

تقريض لكتاب مذكرات الاستاذ هشام المدفعي
الاستاذ هشام المدفعي غني عن التعريف لكونه علم من اعلام الهندسة والتخطيط في العراق . وعاصر عدة عهود مليئة بالاحداث المختلفة منذ بداية الدولة العراقية في العهد الملكي فالجمهوري بجميع مكوناته وانماطه حتى السقوط عام 2003 وما بعدها. وكان عضوا فاعلا وناشطا في المجال الهندسي والتخطيطي منذ تخرجه وحتى كتابة هذه المذكرات (2014-2016). والاستاذ المدفعي لا يحتاج الى التعريف او التقريض لانحداره من عائلة المدفعي العريقة والمعرفة لدى اكثر العراقيين والمثقفين داخل وخارج العراق. فوالده واعمامه خدموا الدولة العراقية على افضل ما يكون، واخوانه ممن يشار لهم بالبنان في مجالات العمارة والديكور، والهندسة، والموسيقى، والفنون. ومن الطبيعي لمن يعيش ضمن هذه البيئة ان يمتاز بمؤهلات وجودها في الاخرين.
تجربة الاستاذ هشام المدفعي في الحقل الهندسي متنوعة وغنية جدا ، فقد تخرج عام (1950) من كلية الهندسة في بغداد، حين كان عدد المهندسين قليلا ، ومارس الهندسة في شركات ودوائر الدولة (شركة النفط ، مجلس الاعمار، امانة بغداد) كما مارسها في القطاع الخاص وابدع في كليهما من خلال عمله الدوؤب والمخلص. وقد كلف بالاشراف على مشاريع رائدة ومتفردة يشار لها بالبنان دوما . منها (قناة الجيش ، بناية وزارة التخطيط ، نصب الشهيد ، ابنية شارع حيفا ، نصب الجندي المجهول …) ، وامتاز في جميعها بالاتصاف بهدوءه المعهود وبعد تفكيره في قراراته، وتقديم الحلول الذكية والعملية في مجالاتها المختلفة… بالاضافة لاتصافه بحسن الادارة العالي ، وادارة الندوات العلمية والهندسية العامة ، بشكل لافت للنظر.
نتيجة لممارساته العملية والنظرية الغنية والكثيرة في المجالين العام والخاص ، فقد كانت حياة الاستاذ المدفعي حافلة بالنشاط الفعال والمنتج في شتى الحقول الهندسية والمعرفية والثقافية والاجتماعية ، ولثقافته العالية فقد اتقن كل ما كلف به او قام بانجازه . ولنشاطاته المتميزة فقد جلبت له المنافسة المشوبة بالحسد دوما وهذا ما يمكن تلمسه للمتصفح لمذكراته او من سمحت له الظروف بالاطلاع على مسوداتها . ليجد ان هناك مساحات غير قليلة وغير مريحة في مسيرة حياته مثل (حجز الاموال ، الاعتقال ، التهم الملفقة ، الاحالة الى محكمة الثورة سيئة الصيت …).
المذكرات التي دونها الاستاذ المدفعي ممتعة لتنوع مواضيعها ومعلوماتها ، متفردة في بعض المواضيع ، قدمها باسلوب شائق وجذاب ومن دون رتوش او بهرجة ، وعكست تنوع حياته في تنوع مواضيعها. فقد تنقل في المذكرات من حياته الخاصة وولادته ونشأته ووصف دقيق وامين لعائلته ، وبعدها انتقاله للحياة المهنية متنقلا بين الهندسة في مدن ومحافظات مختلفة كالبصرة والسليمانية وكركوك …. ثم الانتقال الى مجلس الاعمار ومشاريع دوكسيادس والاسكان وسياساته ، وقناة الجيش وتنفيذها ، … ولقاءاته مع المرحوم عبد الكريم قاسم وطروحاته.
يتنقل في مذكراته لياخذنا الى انقلاب 1963 ثم الى مشروع تنفيذ بناية وزارة التخطيط والمشروع التجريبي للدواجن ، والابنية الصناعية وغيرها ، ليعكس الفرشة الواسعة لممارساته المهنية والهندسية وغزارة تجربته الريادية التي مر بها وما يرافقها من هزات سياسية وحياة قلقة مع هذا العطاء الفني ، وليذكر مشاكل تجربة المثقف العراقي في حجز الاموال والملاحقات غير المبررة وسيطرة الشارع للتحكم في الامور البسيطة والكبيرة على حد سواء . تليها ممارسات هندسية في امانة بغداد والاصطدام بروتينها ومجلسها ولتقوده مثل تلك الامور الى تقديم استقالته مبتعدا عن تلك التجربة والاجواء ليمارس في مكتبه الخاص الهندسة والتخطيط والتكليف باعداد مخطط الاسكان العام مع شركة بولسيرفس البولندية . حيث تمثل اوسع تجربة علمية وتخطيطية لحل ازمة السكن التي لازمت التاريخ العراقي المعاصر وكافة اطيافه وكيفية توفير السكن الملائم للمواطنين. التجربة التي بدأت بمسح شامل جدا لتحديد الاقاليم المناخية والجغرافية والعمرانية والسكنية بشقيها الحضري والريفي. وقد عدت تلك الدراسة من اهم واوسع الدراسات السكنية في العراق وتحديد الانماط السكنية والمعايير الفضائية والمساحية اضافة الى المخططات والاشكال التوضيحية والبيانية.
الاستاذ المدفعي مثل العراق في مؤتمرات دولية مهمة منها مؤتمر الامم المتحدة للمستوطنات البشرية (هبتات) ومؤتمر منظمة العواصم والمدن العربية والتي كانت امانة العاصمة احد مؤسسيها، ومؤتمر العواصم والمدن الاسلامية وكان في جميعها فاعلا ومهماً.
لقد خصص الاستاذ المدفعي في الفصل الخامس عشر من مذكراته لتجربة قاسية خاضها وهي الاحالة الى محكمة الثورة والاعتقال والحكم عليه بالاعدام ظلما…. تلاها الاستثناء ثم العفو واطلاق سراحه الفوري . لينقل بالقارئ الى الفصل التالي والذي كرس لتجربة بعيدة كل البعد عن تخصصه المهني وهي معاناة في حرب الخليج وسفره الى السليمانية ، فالعودة الى بغداد لتبدأ معاناة الحصار الاقتصادي الطويل (1992-2003) وما رافقها من معاناة للشعب في الحصول على لقمة العيش.
ساهم الاستاذ المدفعي في اعمار العراق بعد السقوط (2003) ودخول القوات الاميركية , وعانى كما عانى كل العراقيين من ظهور الطائفية البشعة، ولم يثنه ذلك من المشاركة في رسم السياسات والممارسات الضرورية الجديدة مع منظمات مهمة مثل (التجمع الديمقراطي في لندن ، جامعة ميلانو ، هيئة الاتصالات والاعلام ، اللجنة العليا للمستوطنات البشرية، المنتدى العالمي (في برشلونة) ، البنك الدولي .. وغيرها من الامور التي ارست ورسمت السياسات الجديدة للعراق. وقد دعا الى احياء مجلس الاعمار والانفتاح لتنفيذ مشاريع كبرى . كما ساهم من خلال عمله المكتبي الخاص في في الاعمال التخطيطية والتنموية والانشائية واعداد دراسات للتصاميم الاساسية لمدن مهمة مثل (الخالص، الزبيدية، شيخ سعد، المحاويل، الموفقية ، واسط ، الشحيمية…) ودراسات اقليمية وهيكلية لمحافظات (المثنى ، بابل، الانبار، صلاح الدين ، كربلاء …) وكذلك تصاميم حضرية تفصيلية كدراسة مركز الموصل ، ومركز مدينة الكوفة…
لقد زاملت الاستاذ المدفعي وعملت معه في الدراسات التخطيطية لمدة زادت على العشرسنوات بدءاً من اعداد قانون جديد للتخطيط العمراني وانتهاء بتصاميم وتفاصيل المدن او هيكليات المحافظات فوجدته انسانا دقيقا في نظرته لجميع الامور العامة والخاصة ، بعيد النظرة وواسع الافق ، واداري من الدرجة الاولى ، ذو نظرة ثاقبة للامور المطروحة ، واستفدت كثيرا من تلك التجربة والعمل برفقته وتعلمت منه كيفية معالجة الامور المعقدة والمستعصية . وكان خير مرشد وموجه لنا في جميع الامور كما عدت تلك الفترة من اغنى التجارب في حياتنا العملية واشعر بسعادة دوما للعمل معه والاستفادة من تجاربه غير الناضبة واسلوبه المتميز في العمل المبدع .

علي نوري حسن
مهندس معماري ومخطط مدن
9 / تشرين الثاني/ 2016

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة