دغل الانتلجينسيا

من المعروف عن شريحة المثقفين (الانتليجينسيا) أنها تعكس بنحوٍ عميق، حالة المجتمع من قدرات وميول وتطلعات واستعداد للرقي أو للانحطاط. وهذا ما تعرفنا عليه لا في تجارب الأمم والمجتمعات الأخرى وحسب، بل بشكل واضح ودقيق في محطات تأريخنا القديم والحديث؛ إذ الاختلاف النوعي بين من كان يمثلها في عصر دار الحكمة والتوهج العلمي والمعرفي والقيمي زمن المأمون والعقلانية والمعتزلة، وما حصل معها زمن الانحطاط والركود الطويل الذي بدأ مع المتوكل وحنابلته والسلالات المنحدرة عنها. هذا في الماضي البعيد، وفي تأريخنا الحديث، يمكن التعرف على الفرق الشاسع بين ممثلي “الانتلجينسيا” قبل اغتيال المشروع الوطني والحضاري العام 1963 وتحول الإمكانية السلبية الى واقع، في ذروتها “جمهورية الخوف” والتي نتج عن برنامج دمارها الشامل والممنهج ما يمكن أن نطلق عليه بـ (دغل الانتلجينسيا)، حيث دورهم ووظيفتهم تتماثل والحشائش الضارة (الدغل) في التمدد الكثيف والسريع في المكان، والتطفل على كل مصادر الحياة والحيوية فيه، مما يلحق أفدح الأضرار بفرص استرداد المجتمع لعافيته. هذا الحطام الثقافي يشغل اليوم غالبية المفاصل الحيوية لهذا الحقل رسمياً وشعبياً، ومنه بمقدورنا فك شيئاً من طلاسم العجز العضال في المشهد الراهن.
بالرغم من الأعداد الكبيرة للمنتسبين لنادي (الانتلجينسيا) إلا ان مهمة العثور على من اصبح منهم مصدر إلهام للعراقيين في محنتهم الراهنة، ما زال أمراً صعباً وعسيراً، حيث نتاجاتهم الثقافية والفكرية نادراً ما تحيد، عما رسم لهم من مخططات وبيانات تنتهي بهم الى معطيات لا تعكر صفو ثوابتنا الجليلة وراحة القيمين عليها من سدنة وعسس وأتباع. كم هائل من المؤلفات والكتب والمطبوعات في شتى المجالات والاهتمامات والحقول، يحرصون على إصدارها والترويج لها، لكنها وكما هو حال سابقاتها؛ سرعان ما تنزوي ويلفها النسيان من دون أن تترك اثراً، اللهم سوى المزيد من العجاج الفكري لواقع يزداد عتمة. انسداد الآفاق هذا جعل غير القليل منهم، يتقمص أدواراً أخرى مثل النزول الى الشارع بغية تحريك ذلك الركود المزمن، والحرص على المشاركة الدائمة في طقوس التظاهر الأسبوعي تحت نصب الحرية، وهي محاولات لا تختلف في جوهرها ومردوداتها عما تركه نشاطهم النظري البائس من أثر.
في تجارب ما يعرف بالأمم والمجتمعات الحرة والمتقدمة، والتي عاشت محنة السقوط في مستنقعات النظم التوليتارية، تعرفنا على الأدوار التي لعبتها شريحة (الانتلجينسيا) وهي في الغالب قد شكلت رأس رمح المواجهة مع تلك الردة الحضارية، أما العدد الضئيل والذي شطت مواقفه وانحرفت عن ذلك المسار، فسرعان ما أعادوا النظر بمواقفهم المخجلة تلك، وأقروا بكل شجاعة بذلك الخلل والعطب الذي رافقهم آنذاك، لينهضوا من جديد. لكن مثل تلك المواقف المسؤولة والشجاعة، لم تظهر لدينا بالرغم من الأعداد الكبيرة التي تلوثت زمن النظام المباد في شتى الحقول والتخصصات، ليس هذا فحسب بل هرع الكثير منهم الى “الوليمة” التي أقامها لهم ولأمثالهم الفاتحون الجدد، ممن رمتهم الأقدار العابرة للمحيطات على بروج المنطقة الخضراء. مناخات وشروط طاردة لكل ما هو سليم ومعافى، شرعت الأبواب واسعاً أمام هذا النوع من الدغل الأشد فتكاً في حياة المجتمعات والدول، لنجد أنفسنا وسط هذا المأزق الحضاري وانسداد الآفاق الذي لن تنفع معه كل أنواع الأدعية والتعاويذ..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة