التعويض عن العجز بتوثيق المأساة

A THOUSAND TIMES GOODNIGHT

عبد السادة جبار

تبحث نزعة الشعور الإنساني لدى الإنسان الواعي عن مسارب ممكنة للمشاركة في الهم الإنساني بأي قدر ممكن، وفي الحروب تضيق تلك المسارب وتقل الفرص ويصبح البحث عنها ضرباً من المجازفة الخطرة والمميتة؛ لأن الحروب لا تترك لك فسحة للاختيار أو التروي فإما أن تكون ضد وإما مع وإما تتنحى جانباً لتمزقك مشاهد المآسي، وإذا كانت بعض الأفلام تصور مآسي ضحايا الحروب والاقتتال والتطاحن الداخلي، فان فيلم « A THOUSAND TIMES GOODNIGHT ألف مرة ليلة سعيدة « يصور مأساة غير المشارك فيها بنحو مباشر وأحزانه والمصائب التي يتعرض لها لمجرد انه يسعى لتوثيق نتائجها المدمرة كاسهامة للتعويض عن عجزه عن المشاركة في الحل أو كنوع من تسجيل الإدانة للأطراف الغاشمة والمسببة لهذه المآسي. المخرج النرويجي ايريك بوبي درس التصوير السينمائي في معهد الفن الدرامي بستوكهولم وأخرج العديد من الإعلانات التجارية والأفلام القصيرة والوثائقية، قدم للسينما نحو ثلاثة عشر فيلماً، اما فيلمه الأخير «ألف مرة ليلة سعيدة « فهو مستقى من تجربته المهنية، إذ عمل مصوراً لدى وكالة رويتر وقنوات إعلامية أخرى، عندما كان يقوم بتغطية الأخبار العالمية، والصراعات في أميركا الوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب شرق آسيا.

مآسي المهنة والأسرة

يحكي الفيلم قصة «ربييكا « ( الممثلة جوليت بينوش ) تعمل مصورة صحفية لصالح إحدى الوكالات الإخبارية، تزودهم بما يجري في أفغانستان من تطاحن، لها علاقة جيدة مع المسلحين الذين يسمحون لها بتصوير النساء الانتحاريات ممن يتم إعدادهن لهذه المهمة ابتداء من حفر قبرها ودخولها فيه وقراءة التعاويذ الدينية وهي راقدة فيه؛ لأنها بعد أن تتفجر لن يجدوا شيئاً من جسدها وهنا يقرر مكان القبر مسبقاً. تصور ربييكا إحداهن من مرحلة تغسيل الموتى والتكفين وقراءة التعاويذ وتركيب الأحزمة الناسفة، ثم تأتي مرحلة توديع الأقربين القاسية، إنها تغادر الحياة الدنيا الفانية من أجل عمل سامٍ ستنال عنه الفوز الكبير في الآخرة كما تعتقد أو كما صوره لها رجال الدين، وعند اكتمال استعدادها تهيئ مركبة لذلك، تقنع ربييكا المسؤولين بأن ترافقها لبضعة كيلومترات لتصورها، وفي الطريق قبل الوصول الى الهدف تتعطل المركبة ويشك الشرطة بالأمر ويفتشون الصحافية فتظهر لهم هويتها الأجنبية وتغادر بسرعة المكان وهي تحذر المارة المنتشرين بأن يبتعدوا لوجود قنبلة، لكنها لم تبتعد كثيراً عن المكان حتى فجرت الانتحارية نفسها حال محاولة الشرطي تفتيشها وتتحول إلى أشلاء هي ومن أصابته تلك الشظايا المدمرة، ولم تسلم ربييكا أيضاً إذ تصاب إصابة خطيرة تنقل على اثرها الى دبي لتعالج ثم تعاد إلى بلدها ايرلندا، ومن هنا يبدأ الجزء الآخر من المعاناة، الصراع مع الأسرة: ابنتان وزوج، البنت الصغيرة تعتقد أنها مسافرة وتسألها عند عودتها عن هدايا، البنت الكبيرة «ستيف « الممثلة (لورين حكيم) تعرف ذلك وتجد ان هذا العمل يجعل الأم غريبة عنها إذ تصارحها بأنها تفضل أن تكون ميتة أفضل مما أن تكون منتظرة متى سيعلنون عن موتها، والأكثر تشدداً هو الزوج « ماركوس « ( الممثل كوستر والدو ) يخبرها بأنها لم تعد أماً، إنها امرأة غريبة عن الأسرة تأتي بمنزلة ضيفة وان الحمل هو من ينهض به، تعلن ربييكا قرارها بترك العمل في الوكالة إلى الأبد لكن مقابل ذلك تخبرها الوكالة بعدم نشر صورها؛ لأنها لا تتناسب مع السياسة العامة، في هذه المدة تحاول الأم أن تكون أكثر حميمية مع أسرتها، إذ تقترب من ستيف ويدور بينهما حوار بشأن أهمية ما صورته شارحة لها الدور الانساني لتوثيق الجرائم التي تنتج عن سياسة الكبار ويذهب ضحيتها الشعوب من أجل المتاجرة بخيراتهم، تساعد الأم ابنتها في مشروعها المدرسي عن إفريقيا ويصادف أن يشاهد أحد الأصدقاء الصحافيين ربييكا ويدعوها للعمل معه ضمن مهمة الأمم المتحدة في منطقة محمية لا خطر فيها تشمل النازحين، ترفض الأم إلا أن الابنة تقنعها بالذهاب معاً لتكمل مشروعها المدرسي، فيعترض الزوج غير أن الابنة تصر وتتهمه بخذلانها وعدم الاهتمام برأيها وأخيراً يخضع لإرادتها بعد أن تؤكد له ربييكا من أن المكان آمن، وتهدي لابنتها كاميرا لتصور معها المخيمات والأطفال والنساء، لكن طارئاً يحدث بهجوم بعض المتسللين على مخيمات النازحين إذ يسارع المرافق بوضعهم في سيارة للخروج من المخيم وهنا تترك ربييكا السيارة لتصور وقائع الهجوم الذي يحصد أرواح الأبرياء، ثم تعود هي وستيف إلى البيت على أن يتفقا على عدم إخبار الأب عن الحادثة، إلا انه يكتشف ذلك حين ترسل تلك الصور على المواقع متهمة الأمم المتحدة بالتقصير وعدم توفيرها الحماية الكاملة للاجئين، فتسوء العلاقة بينهما حد القطيعة لكن ستيف تفيد من تلك الصور مع ما صورته هي لتعرض مشروعها أمام جمهور المدرسة وتحظى بتأييد وتصفيق حار وتعاطف مما يجعل الأسرة فخورة بهذا العمل، تتم المصالحة بين أفراد الأسرة وتتفهم دور الأم وتصل رسالة إليها من الوكالة مؤكدة على صورها وإنها تحتاج منها إلى صور إضافية، تودع الأسرة وتسافر إلى المكان نفسه لتصور مرة أخرى إحدى النساء الانتحاريات، لكنها هذه المرة فتاة بعمر ابنتها، تصاب بالرجفة وتحاول أن تواصل التصوير لكنها تنهار وتسقط على الأرض.

المشاركة في الهم الإنساني

يظهر إن ايريك بوبي بنى شخصية بطلته الرئيسة كمعادل موضوعي لشخصيته وتجربته الحقيقية في الفيلم ليجسد من خلال ذلك معاناته في أثناء تلك المشاهدات المريعة في جولاته ليصنع من فيلمه صرخة احتجاجية كبيرة أمام النفاق العالمي لرسالة السلام، حاول من خلال انتقالاته التصويرية بين مكانين رئيسين (أماكن الصراع– والعائلة) أن يجسد تلك المفارقة القاسية في أنانية عالمية واسعة (الدولية) وأنانية الأسرة بالاحتفاظ بالفرد الساعي الى محاولة فعل شيء للإنسانية. صور المشاهد القاسية بواقعية تقترب كثيراً من حرارة الوثائقية في تلك البلدان المخدوعة، وجوه نساء، أطفال أبرياء، شيوخ مغدورون، ثم صور الأسرة وهي تعيش حياتها الرتيبة بين تناول الطعام والنوم والمدرسة والعمل، لكن الأم تحرك جمرة قابلة للتوهج في ابنتها الكبرى الطموحة « ستيف « في مشروعها الإنساني، وتعيش تجربتها الخطرة ليكتمل وعيها خلال حوار توصل فيه أفكارها عن أسباب تلك الحروب إذ تعزوها إلى حكومات محلية أنانية ومستبدة وتجار حروب ودول كبرى مستفيدة، تلك المحاولة تنجح بإقناع امتدادها ونوعها، ابنتها، بأهمية الوجود كفرد داخل الأسرة الإنسانية.

 

فيلم « A THOUSAND TIMES GOODNIGHT»، تمثيل: جوليت بينوش، كوستر والدو، لورين حكيم، إخراج: ايريك بوبي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة