التعددية الحزبية في العراق الواقع والممارسة

القاضي قاسم حسن العبودي

لعل من أهم اسباب تعدد الأحزاب في دولة ما هو وجود تعددية عرقية وأثنية ودينية وطائفية فيها، فكل فئة من هذه الفئات تسعى لضمان حقوقها من خلال النفوذ السياسي المتمثل في الوصول الى مراكز السلطة وقد اسهم تبني بعض الدول الديمقراطية لنظام التمثيل النسبي والانتخاب غير المباشر في تعزيز أو في نشوء ظاهرة التعددية الحزبية، حيث وفق نظام التمثيل النسبي لا يتم هدر الأصوات وتتمثل الأقليات داخل البرلمان أو المجالس المحلية بنسبة مساوية الى حد ما الى حجمها الحقيقي.
وهو ما قد يلاحظ في كثير من الدول كأسبانيا وإيطاليا وتركيا التي تبنت نظام التمثيل النسبي.
وعلى العكس من ذلك يلاحظ أن تبني نظام الأغلبية والانتخابات المباشرة أدى الى ظهور الثنائية الحزبية في كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا إذ تتمحور كل القوى حول حزبين كبيرين غير عقائديين ولا يمثلان طائفة بعينها أو فئة معينة، وغالباً ما تتركز برامجها السياسية على المساومة.
فضلاً عن الاستفادة من ظروف كل مرحلة والتغيير على وفق متطلباتها، وبعبارة أخرى غالباً ما يكون هذان الحزبان أكثر واقعية من الأحزاب ذات الإيديولوجية العقائدية.
وهنا قد يفاجئ القارئ بأن في بريطانيا على سبيل المثال هناك أحزاب صغيرة غير الحزبين المعروفين (حزب المحافظين وحزب العمال) مثل حزب الأحرار، والحزب الشيوعي، والحزب التقدمي.
وفي أميركا أيضاً هناك أحزاب صغيرة غير الحزبين الرئيسين (الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) مثل حزب الفلاحين، وحزب العمل، والحزب الاشتراكي، والحزب التقدمي.
وعلى الرغم من اختلاف النظام السياسي في كل من الدولتين، حيث تبنت بريطانيا النظام النيابي بينما تبنت الولايات المتحدة الاميركية نظاماً رئاسياً الا إن الثنائية الحزبية ظلت مسيطرة في كل من هاتين الدولتين ولم تفلح الأحزاب الصغيرة التي ذكرناها آنفاً من منافسة هذين الحزبين على الرغم من أن حزب الأحرار في بريطانيا قد استطاع وعلى الدوام من دخول البرلمان والحصول على بعض المقاعد فيه ولكنها وفي كل الأحوال لم تكن ذات تأثير داخل البرلمان البريطاني ولم تؤهله لتشكيل حكومة.
وفي النتيجة فأن المناخ الرأسمالي السائد في تلك الدولتين قد أدى الى استقطاب هذين الحزبين لمصالح رجال الأعمال والشركات الكبيرة التي دعمت بنحو كبير مرشحي هذين الحزبين في الوصول الى السلطة، وبالامكان تخيل أهمية هذا الدعم اذا ما علمنا ان كلفة الدعاية الانتخابية لآخر منافسة على الرئاسة الاميركية قد بلغت ما يقارب مليار دولار أميركي.
وبسبب تناوب هذين الحزبين على السلطة فان هناك شبه اتفاق غير مكتوب يقضي بان يخصص الحزب الذي يصل الى السلطة مناصب حكومية للحزب الآخر كما هو الحال في الولايات المتحدة الاميركية، وعليه أصبحت هذه الثنائية السمة الغالبة للثقافة السياسية في هاتين الدولتين، حتى شاع القول المشهور (أن ليس هناك أكثر من حلين لكل مشكلة مهما كانت كبيرة).

التعددية الحزبية في العراق:
بلا شك ان لا أهمية لتعدد الأحزاب اذا لم يكن هناك مناخ ديمقراطي كما هو الحال في الأمثلة السالفة، وقد قال أفلاطون: ان الديمقراطية كالثوب الذي تزينه ألوان الزهر المتعددة.
ولم يشهد العراق كما هو معروف مناخاً ديمقراطياً يسمح بالتعددية السياسية فضلاً عن التعددية الحزبية، فمنذ انقلاب 1968 احتكر حزب البعث السلطة في العراق ولم يكن أي تداول للسلطة، وشمل نمط الحزب الواحد كل جوانب الحياة في العراق، ولعل من الطريف أن اذكر ان بعض أساتذتنا في كلية القانون سامحهم الله ابتدعوا نظرية لم ينزل الله بها من سلطان لتصنيف النظام السياسي السائد في العراق وتمييزه عن نظام الحزب الواحد اسموها نظرية (الحزب القائد) وهنا بلغت الشمولية قمة الاستخفاف بالعقل الإنساني، ولا أدري ان كانت هذه النظرية ما زالت تدرس ضمن منهج النظم السياسية في كليات القانون والسياسة في العراق، ولكن يبدو أن هذه النظرية لم تفلح في إقناع حتى رموز النظام السابق، وفي محاولة منه لتزيين صورته قام النظام السابق بسن قانون للأحزاب برقم 30 لسنة 1991 وحاول الاتصال ببعض الأشخاص لتأسيس أحزاب شكلية على غرار النمط الموجود في مصر وقيد بموجب هذا القانون الأحزاب المراد تأسيسها بجملة من القيود التي من شأنها أن تجعل من تأسيس تلك الأحزاب أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد ان لم يكن مستحيلاً.

أسباب التعددية الحزبية في العراق:
كما هو الحال في الأمثلة آنفة الذكر فان تنوع مكونات المجتمع العراقي أدى الى ظهور التعددية الحزبية في العراق، وعلى خلفية هذا التنوع نشأت أحزاب قومية كالأحزاب الكردية والتركمانية، وأحزاب دينية سنية كالحزب الإسلامي الذي هو امتداد للإخوان المسلمين في العراق، وأحزاب دينية شيعية كحزب الدعوة الإسلامية وحزب الله ومنظمة العمل الإسلامي وأحزاب أخرى شيعية صغيرة عملت مع الأحزاب الكبيرة تحت مظلة ما يعرف بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الى فترة قريبة قبل أن تنفصل عنه.
هذا فضلاً عن وجود الأحزاب القومية العربية كحزب البعث والحزب الناصري وهناك أحزاب نشأت نتيجة انتشار الفكر الماركسي في النصف الأول من القرن العشرين كالحزب الشيوعي العراقي.
وقد ساعد القمع الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية في العراق على ازدياد التكتل الطائفي والقومي.
ويمكن إضافة سبب آخر لازدياد عدد الأحزاب في العراق خاصة بعد انهيار النظام الدكتاتوري الى تفكك الأحزاب الكبيرة نتيجة للأزمات الأيديولوجية ولضعف التنظيم (اللامركزية)، فقد عانى الحزب الشيوعي العراقي أزمة الأيديولوجية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية وتراجع الفكر الماركسي مما أدى الى تفكك الحزب الشيوعي وظهور عدة أحزاب منه، كالحزب الشيوعي الكردستاني والحزب الشيوعي العمالي.
وهنا يمكن ملاحظة مسألة على هذين الحزبين فأحدهما يمثل قمة البرغماتية بخروجه من الأممية وتبنيه الفكر القومي، أما الحزب الآخر وهو الحزب الشيوعي العمالي فهو لا يزال متمسكاً بدكتاتورية البروليتاريا.
وبالوقت نفسه هناك أحزاب إسلامية قد أصيبت بداء التفكك نتيجة للامركزية في التنظيم كحزب الدعوة الإسلامية الذي ظهر من رحمه عدة أحزاب من أبرزها حزب الدعوة تنظيم العراق، وحركة الدعوة، وملاك الدعوة.

التعددية الحزبية في العراق ـ رؤية مستقبلية:
ما أن تهاوى تمثال الطاغية إلى الأرض في ساحة الفردوس، في العاصمة بغداد، حتى امتلأت الأسيجة والأماكن العامة باللافتات لشتى الأحزاب والكيانات السياسية، في سعيها للحصول على النفوذ السياسي للحفاظ على مصالحها القومية والمذهبية والعرقية.
حيث ظهرت تشكيلات جديدة لأحزاب الكثير منها ظل يدور في أفلاك الأحزاب الكبيرة على خلفية تنوعها الذي ذكرناه آنفاً، والبعض منها حاول مد جسور للتواصل بين مختلف التيارات، كتجمع الديمقراطيين المستقلين ـ الدكتور عدنان الباجة جي ـ أو التجمع الجمهوري العراقي ـ سعد عاصم الجنابي ـ وحركة الضباط والمدنيين الأحرار ـ نجيب الصالحي، والمؤتمر الوطني العراقي ـ الدكتور أحمد الجلبي ـ وحركة الوفاق الوطني ـ الدكتور أياد علاوي، حيث تضم هذه الحركات والأحزاب أشخاصاً من شتى القوميات والمذاهب، الا ان تمثيلها وقواعدها الشعبية ظلت بعيدة عن منافسة الأحزاب الكبيرة الممثلة للقوميات والمذاهب.
ولا بد من الإشارة الى ان التشريعات التي سُنت للعملية السياسية في العراق كقانون إدارة الدولة العراقية وقانون الأحزاب والهيئات السياسية رقم 97 لسنة 2004 وقانون الانتخابات رقم 96 لسنة 2004 ستسهم في تعزيز التعددية الحزبية في العراق.
ولتفصيل ذلك لا بد من الإشارة الى ما يلي:
1. ان قانون الانتخابات رقم 96 لسنة 2004 الذي سيجري بموجبه انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية قد أخذ بنظام التمثيل النسبي الذي سيسمح بدوره بتمثيل عادل لشتى التيارات السياسية في العراق كذلك الأخذ بنظام الدائرة الواحدة سيسمح للأقليات المتوزعة بنحو عشوائي على عموم العراق بأن تتمثل داخل الجمعية الوطنية.
2. أما قانون الأحزاب والكتل السياسية رقم 97 لسنة 2004 فقد أعطى الحق حتى للأشخاص المنفردين بان يكونوا كيانات سياسية لغرض خوض العملية الانتخابية اذا حصل الواحد منهم على توقيع ملا يقل عن (500) ناخب مؤهل، وبالفعل قد حصل بعض الأشخاص على تصديق المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بوصفهم كيانات سياسية، وهو مبدأ غريب انفرد فيه هذا القانون عن بقية التشريعات الانتخابية الدولية.
3. ان طريقة التصويت داخل الجمعية الوطنية الذي نصت عليه المادة الخامسة والثلاثون من قانون إدارة الدولة العراقية والمطلوبة لاتخاذ القرارات المهمة كتعيين الهيأة الرئاسية أو عزل أحد أعضائها، حيث اعتمدت الأغلبية الموصوفة (أغلبية الثلثين أو أغلبية ثلاثة أرباع الجمعية الوطنية)، والتصويت بالاجماع بالنسبة لقرارات التي تتخذها الهيئة الرئاسية المكونة من ثلاثة أشخاص ستجعل من العسير لأي كتلة أو حزب داخل الجمعية الوطنية من تحقيق إرادته السياسية من دون التحالف مع كتل أو أحزاب أخرى، وما يمكن استقراؤه من كل ذلك أن أغلب ما سيصدر من تشريعات من الجمعية الوطنية سيكون محكوماً بالأخذ بمصالح جميع الفرقاء في العملية السياسية.
وحيث ان نظرية التعددية الحزبية في الدول الديمقراطية تقوم على مبدأ عدم وجود تفاوت كبير بين الأحزاب من حيث القاعدة والتأثير، وهو ما لا يتوفر إلا لعدد محدود من الأحزاب العراقية، فيمكننا استنتاج ما تتمخض عنه العملية السياسية في العراق، وهو نشوء تحالفات ظهر جزء من ملامحها من خلال تشكيلة القوائم المتنافسة في انتخابات الجمعية الوطنية التي ستجري في الثلاثين من كانون الثاني وستؤدي تلك التحالفات الى نشوء ما نستطيع أن نصطلح عليه تسامحاً بالثلاثية الحزبية:
– أحزاب قومية.
– أحزاب دينية شيعية.
– أحزاب دينية سنية.
وستتمحور كل القوى السياسية حول هذا المثلث السياسي.

•ينشر بالاتفاق مع موقع النور

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة