تكريس التخلف

لا يتناطح كبشان حول واقع التخلف الذي انحدرنا إليه في العقود الأخيرة، ولا سيما بعد حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت) وما رافقها من خسائر بشرية ومادية هائلة، غير النتائج المباشرة لتلك المحرقة، كان الحصار القاسي والطويل الذي فرض على العراقيين الخضوع لأكثر أشكال الحياة بؤساً وبدائية، شروط الحياة هذه صبّت جام حقدها على ما تبقى من حياة مدنية، لذلك ما أن تبخرت مظاهر سطوة مؤسسات النظام المباد بعد اسئصاله عبر المشرط الخارجي، حتى تمددت في ذلك الفراغ الذي تركته، نوع من القوى بعيدة كل البعد عن المنظومات الحداثوية المجربة والمتناغمة ومتطلبات عصرنا مثل؛ القبائل والطوائف وخلطة من مافيات المصالح ولصوص المنعطفات التأريخية، لتتحول لحظة التغيير التي انتظرناها طويلاً من أجل نهضة الوطن المنكوب؛ الى غطة إضافية في مستنقع التخلف والركود. عندما نفند بشدة زيف الدعوات المتلفحة بشعارات الإصلاح والتغيير؛ فإن ذلك ينبع من معرفتنا العميقة لنوع القوى المهيمنة وطبيعة أفكارها وغاياتها المنسجمة وشروط التخلف التي ورثناها عن زمن العبودية والحروب والاستبداد. حقيقة يمكن التأكد منها بيسر في سلوك وقرارات وتشريعات الكتل المتنفذة، كسلطات اتحادية وحكومات محلية، حيث تتحفنا مجالس المحافظات بلا انقطاع بتوجيهاتها الرشيدة المبنية على اساس احترام رأي وتقاليد شارع أهدتنا إياه تلك الحقب الغبرة التي أشرنا إليها. على سبيل المثال لا الحصر قرار مجلس محافظة واسط بمنع عمل النساء في المطاعم والكافتريات، وهنا لا نحتاج الى كشف منافاته لما جاء في الدستور، فمثل تلك الخروقات لم تعد ذات أهمية، فالخروقات على قدم وساق، وتجربة أكثر من عقد معه (الدستور) برهنت على أنه قد تحول بيد هذه الطبقة السياسية الى “حايط نصيص”.
إن مثل هذا العمل الممنهج لتكريس التخلف، تحت ذريعة “الشارع عاوز كده” يجعلنا لا نختلف كثيراً عن شعوب أوروبا في القرون الوسطى، عندما كانت محاكم التفتيش الكنسية تقودهم لقتل وحرق النساء بتهمة أنهن “ساحرات” وسط حماسة منقطعة النظير من الحشود الهائجة..! إننا اليوم بأمس الحاجة لحشد الضمائر والإرادات والعقول والهمم لمواجهة تركة ذلك التخلف وملحقاته من السلوك والتقاليد، ومثل هذه المهمة لن تنهض بها مثل هذه القوى التي يلهج لسانها بالشعارات والمفردات الحديثة (ديمقراطية ومدنية ومواطنة…) ويخفق قلبها في الخفاء وما اختصرته عبارة أشقاءنا النيجيريين الشهيرة (البوكو حرام).
علينا أن ندرك جيدا أن هذه المهمة أصبحت أكثر عسراً بعد أربعة عشر عاماً من السياسة الهوجاء التي وفرت الشروط والتشريعات وكل ما تحتاجه بؤر التخلف هذه، من إمدادات كي تترسخ وتتمدد وتبقى كما قالت داعش ذات غروب، وكل من لم تحجب عنه حندرياته العقائدية، واقع حال المجتمع الفعلي يدرك أن القوم مغيبون تماماً عما يحيط بهم من تحديات وحاجات واقعية، بفعل هذه السياسات المدججة بهموم واهتمامات القرن السابع الهجري. إن التحرر من مناخات الغيبوبة الشاملة التي أحكمت قبضتها بعد “التغيير” يحتاج الى انعطافة ووعي آخر يشق دروباً جديدة بعيدا عن هذه البرك الراكدة، وعن مزاج وسيكولوجية الخنوع والخضوع الذي يقف بالمرصاد لكل محاولة تتجرأ على تعكير صفو وطمأنينة ذلك الركود وثوابته الخالدة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة