الإفصاح السردي والتمثّل الافتراضي في القصة القصيرة
عبد علي حسن
سنحاول في مقاربتنا هذه الدخول الى منطقة جديدة في تحليل ورصد المتغيرات البنائية في القصة القصيرة العراقية، استدعتها المحاولات الإجرائية الجديدة للقصاصين العراقيين وهم يسعون الى تجاوز المنجز الذاتي والموضوعي في المشهد السردي العراقي ووفقا للمتغيرات الحادة التي يشهدها الواقع ومعطياته المقتربة من العجائبي والغرائبي الأمر الذي دفع القصاصين الى الامتداد في استخدام آليات السرد الحديثة وتقنياته المتقدمة بغية الوصول الى حالة من التوازن بين المعطى الحياتي والواقعي وتمثله في النص الافتراضي.
ولعل الانتقال الى
منطقة الميتاسردي في الرواية تحديداً – هو القاسم المشترك او الظاهرة الأكثر شيوعاً في تقنيات السرد المعاصر والتوجه الى رواية السيرة الذاتية والموضوعية وتحديداً -سيرة المدن والمكان – وما توفره هذه التقنيات من إمكانية محايثة الواقع الزاخر بالمظاهر السردية هو ما دفع القصاصين الى اعتماد هذه الآليات – او بعضا منها – في تقديم نص قصصي قصير يقترب / أو يضاف إلى ما توصل إليه سرد القصة القصيرة العراقية ، وتعد الأمكنة الحقيقية والأسماء الصريحة التي يحفل بها النص الميتاسردي من أهم ما تضمنته رواية أو قص الميتاسرد بهدف إتقان لعبة الإيهام ومد الجسور بين النص والمتلقي لذا فقد لجأ القصاصون الى اعتماد تفاصيل الواقع/ أسماء أمكنة/أسماء شخصيات / أحداث حقيقية لتكون خلفية لتمثل سردي افتراضي غالباً ما يكون متخيلاً يتحرك في منطقة العجائبي مع الاحتفاظ بأصول بنائية القصة القصيرة دون تقديم نص ميتا سردي صرف وان كان يتخذ من تلك الآليات قاعدة للافتراضي المتخيّل، وان كنا لمسنا هذا التوجه من قبل القصاصين العراقيين في مجاميعهم القصصية في العقد الأول من هذه الألفية ، فان نموذجنا لما ذهبنا إليه آنفاً ستكون المجموعة القصصية القصيرة (( بيت جني )) للروائي والقاص حميد الربيعي الصادرة عن دار(أمل الجديدة) عام 2015 ط 1.
ولعل عنوان مقاربتنا للمجموعة يشير الى متلازمة واضحة بين حضور تفاصيل الواقع والإفصاح عنه والتمثل السردي الافتراضي الذي يقترحه القاص ، وهذا يعني أن هنالك صلة سيتم الكشف عنها لاحقاً والأمر الذي دفعنا – ومن خلال التحليل – الى البحث عن العلة والمعلول وأيهما يستوجب الآخر الواقع أم الافتراض ؟ والى أية مدى تمكن القاص من إحكام بنائية هذه المتلازمة ليصل الى طرح آلية جديدة وتقنيات سردية استدعتها ضرورة محايثة معطيات الواقع والتعبير عنها متجاوزة لما يشهده القص القصير العراقي ..؟
ويعد( لواقع ) بكل توصيفاته اللغوية والاصطلاحية إنما هو ما تقع من أحداث ومسميات يعيشها الإنسان في الزمن الحاضر ، فحين تشير الى حضور الواقع والإفصاح عنه إنما تعني حقيقية وقوع الأحداث ، والمسميات الواردة في النص القصصي الراكزة في الذاكرة الفردية والجمعية على حد سواء ، أي ما جرى الاتفاق على حصولها ووقوعها ومعايشتها من قبل أفراد المجتمع ، أما التمثل الافتراضي فهو السرد الذي جرى تخليقه افتراضياً من قبل كاتب النص وهو ذو اتجاهين الأول يمتلك القوانين المنطقية في تشكيل الحدث وتطوره أي عدم وجود ما يتجاوز هذا الواقع والثاني متجاوزاً للمنطق ليتصف بالغرائبية والعجائبية متجاوزة التشكيل الحسي لحركة الأحداث بما فيها تصرف الشخصيات ، وبالإمكان ملاحظة وجود هذين القطبين ( الواقع والمفترض ) منفصلين في نص ما فاننا أيضاً يمكن ملاحظة تلازمهما في نص آخر كما وجدنا في نصوص مجموعة (بيت جني ) لحميد الربيعي ، وهذا ما سنحاول التوصل إليه في تحليلنا لنصوص المجموعة فضلا عن الإجابة عن سؤال أيهما كان في خدمة الآخر أو سبباً أو علة لوجود الآخر كمتلازمة نصية وبنائية …؟
• أفرزت قراءتنا للمجموعة المتكونة من أربع عشرة قصة وجود متلازمة ( الواقعي / الافتراضي ) في اغلب قصص المجموعة ، ويبدو أن القاص حميد الربيعي كان واعياً تماماً لبنائية هذه المتلازمة ومحاولاً جعلها القاسم المشترك لقصص المجموعة التي انتهت بقصة ( في البدء) لتكون ( قصة القصص) ، إذ كانت شخوصها هن الشخصيات المركزية للقصص السابقة لهذه القصة وسنؤجل الحديث عن هذه القصة فيما بعد تناول وتحليل قصص المجموعة التي وضع لها عتبة أساسية تضيء قراءتنا وهي (كلما توغلت في العمق ، تكتشف بهاءها وروعتها وفتنتها ) مذيلاً هذا القول بـ ( السارد ) وتكشف هذه العتبة رؤية السارد كلي العلم – المؤلف – الداخلية لمجريات السرد ، أي أن ( السارد) هنا ينوي بل ويتعمد الدخول الى عمق المجريات الواقعية ويسعى الى التوغل داخل الظاهرة (جوانيتها) ليكتشف البهاء والافتنان والدهشة ، ولعل هذه الجملة في العتبة الأولى للمجموعة ستهيّء ذهن المتلقي الى أن القصص ستتجه الى رصد ما وراء الأحداث التي تتضمنها بغية الوصول الى الدهشة في هذه ( الماورائية) لتبتعد عن التسجيل الوثائقي الصرف للواقع ومكوناته.
ووفق هذا التصور ستكون مقاربتنا التي تمكنت من رصد لحضور الواقع العراقي بتفاصيله المعروفة والأحداث المحركة لهذا الواقع فضلاً عن الأسماء الواردة / أمكنة / شخصيات / أحداث راكزة في الذاكرة الجمعية بل ومعاشة من قبل المتلقي ، واعتماد هذا الحضور للواقع من قبل المؤلف كخلفية لتمثل سردي افتراضي يتقاطع بنائياً مع الإفصاح ووضوح مصادر الواقع ، إلا انه يشكل رؤية داخلية (ماورائية) له ، وبمعنى أخر فإن الإفتراض امتلك صفة التبعيد (التغريب) لتكريس الدهشة والرؤية الجوانية معاً في حين ان بنائية الحضور الواقعي تمسك بالمتلقي ليبقى في ارض الواقع فيما يبعده التمثل الافتراضي الغرائبي الى باطن الواقع.
ففي القصة الأولى ( استبدال ) تلمس الوضع الجديد لبغداد بعد 2003 ، حيث الشوارع المغلقة والحواجز الكونكريتية / إذ إن الشخصية المركزية تعاني الكثير ليصل الى شارع الرشيد حيث يقع محله الجديد بعد طرده التعسفي من الوظيفة الحكومية ( الفروع الداخلية التي غالبا ما كان يمر فيها قبل الوصول ، أصبحت الآن مغلقة ، بعدما تهدمت جدران البيوت وصارت كومة أحجار وأنقاض … ص10) ومن خلال هذه الظاهرة تهدم البيوت وهجرها من قبل أهلها وتحولها الى أطلال ..تولدت في ذهنه فكرة إن المدن تمر بدورة منذ النشأ وحتى مرحلة الشيخوخة وصار في يقينه ان بغداد تشيخ وعليه أن يجد تجارة تكون ذات تجدد في (شبابها) فأحتار بمشورة أحدى زميلاته القديمات في الجامعة أن تكون تجارته بيع الملابس الداخلية للنساء ويوماً بعد آخر يكتشف أن تجارته هذه بائرة بفعل الانتهاكات المستمرة للوضع الاجتماعي للمواطن جراء عمليات الاقتتال الداخلي وتفجير السيارات والمفخخات وتزايد القتلى والأرامل ، (الرجال أكلتهم الحروب والمفخخات ، والأرامل صرن ضعفي العدد ، لم يعد ثمة ما يغري بارتداء ملابس زاهية …. النص ص 14 ) ولتحقيق المفارقة البنيوية في النص فأن المؤلف يدفع بالشخصية المركزية الى سوق البالات ( الملابس القديمة ) ليجد هناك زميلاته اللائي صرن موظفات يبعن ملابسهن القديمة وتتم عملية إحالة فكرة شيخوخة المدن الى شيخوخة استعارية للنساء اللائي يحجمن عن شراء الملابس الزاهية والجديدة وتحولهن الى محلات البالات والملابس القديمة (عندئذ صدق ان المدن ، مثل التاريخ ، تشيخ فعلاً ، لكنه ظنَّ ان مدينته في منأى عن هذه الشيخوخة …. النص ص 15 ) إلا أن هذا الظن يقف عاجزاً أمام حقيقة الخراب الحاصل في المدينة وأهلها ، فما كان منه إلا أن (مد رجليه وأراد أن يصرخ ، لكنه ظن ان من العبث إيقاف عملية الشيخوخة بعرفه …النص ص 15 ) وهنا فقط صدق ظنه في حين راودته ظنون كثيرة سابقة أراد ان يقنع بها نفسه ليشق طريقه في الحياة التي ظنها جديدة إلا ان الواقع كان يشير الى طريق معاكس لظنونه تلك .
لقد استثمر القاص بنية الخراب في تفاصيل الواقع ألمعاشي المجسد في تهديم البيوت وهجرة أصحابها والشوارع المغلقة لاحترازات أمنية خوفاً من السيارات المفخخة والعبوات الناسفة قد جعل الشخصية تؤكد ظنها الأول في أن المدن تشيخ ثم انتقال بنية( الشيخوخة) وترحيلها الى الفرد العراقي الذي تمثل في الأحجام عن شراء الملابس الزاهية والاكتفاء بألبسة (البالات ) القديمة وفي الوقت الذي شكل القسم الأول للنص الحضور الواقعي للأسماء والحوادث فأن القسم الثاني الافتراضي الذي تضمن تخليق الشخصية والحدث ليكون انعكاساً لما يجري في الواقع من انتهاكات إنسانية ووجودية .. إذ أن النص الافتراضي في قسمه الثاني كان هدفاً للقاص وهو ما حقق فنية النص القصصي بعيداً عن التسجيل والتوثيق الصرف لحركة الواقع ومعطياته عبر استخدام الفصاحة السردية والانطلاق من الواقع الراكز في ذاكرة المتلقي ليصل الى طرح نص افتراضي يحمل في ثناياه أثراً للحراك الواقعي ، وبمعنى آخر فأن المجريات الواقعية كانت خلفية تتحرك عليها ومنها تفاصيل التمثيل السردي الافتراضي.