قد يبدو العنوان مبهماً وملتبساً لدى المسكونين بالفهم الميكانيكي لتطور الأحداث والعلاقة المعقدة بين الأشياء. عقولهم المبرمجة على معايير الحق والباطل والخير والشر والمدنس والمقدس وغير ذلك من الثنائيات، لا تطيق أدنى علاقة أو وشيجة تجمع مفردة الحرية العظيمة مع مفردة الاحتلال المقيتة، لا سيما أولئك الذين ولدوا وترعروا على فتات الآيديولوجيات والرسائل الخالدة، وما ينضح عنها من حنديريات وفهم ضيق لعالم لا حدود لتحولاته وانبثاقاته، والتي اختصرتها عبارة غوته الخالدة (النظرية رمادية اللون يا صديقي لكن شجرة الحياة خضراء على الدوام). ما جرى في 9/ نيسان العام 2003 عندما وصلت طلائع القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الى العاصمة بغداد، يعدّ وبعيداً عما أثاره من ردود أفعال حادة ومتباينة من شتى الأطراف المحلية والإقليمية والدولية؛ حدثاً مفصلياً في تأريخ العراق الحديث. إن لحظة سقوط الصنم في ساحة الفردوس، قد عبّرت عن حقيقة المشاعر العفوية والصادقة التي تعاطفت واحتفت بذلك المشهد التأريخي المعبّر عن زوال “جمهورية الخوف” بعد عقود من الهيمنة المطلقة لذلك المخلوق الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير.
لم يمر وقت طويل على سقوط الدكتاتورية وتبخر رموزها ومؤسساتها، حتى أكتشف البعض من جهابذة ما بعد “التغيير” إن القوات التي سحقت وقصمت ظهر سلطة الاستبداد والإجرام؛ هي قوات محتلة وعلينا بالتالي التصدي لها من أجل استرداد “سيادتنا” الوطنية على كامل التراب العراقي. اكتشاف سمح لفلول النظام المباد والأجندات الإقليمية المعادية لظهور عراق اتحادي وديمقراطي في مضارب الاستبداد المزمن، كي تعيد تنظيم صفوفها وخطابها وواجهاتها، لينطلق بعد ذلك هجوم واسع ومنظم ضد التجربة الفتية، اكتشاف سمح لجلادي الشعب السابقين للتمترس خلف ما سمي بـ (المقاومة الشريفة) والتي مهدت الطريق؛ لظهور التنظيمات الأشد إجراماً في تأريخ المنطقة والعالم، وبالتالي جر العراق بعيداً عن الأمن والسلام والاستقرار الذي انتظروه طويلاً. من سوء حظ العراق والعراقيين أن يحصلوا على مثل هذه المنحة التأريخية المفاجئة، ومقاليد أمورهم تلقفها نوع من “الزعامات والقوى” تفتقر الى الشجاعة والحكمة والوعي العميق بمثل هذه الفرص التي لا تمنحها الأقدار دائماً؛ لنسدد برفقة حماقاتهم كم هائل من الفواتير القاسية بشرياً ومادياً.
اليوم ونحن نعيش الذكرى 14 لسقوط النظام المباد (2003-2017) نحاول أن ننعش قليلاً ذاكرة البعض، ولا سيما المخلوقات المذعورة والتي سارعت لإلغاء هذا اليوم التأريخي (9 نيسان) من سجل العطل الرسمية، لحساسيتهم المفرطة من مفردة (الاحتلال)؛ حول وهم السيادة الوطنية التي استردوها بعد جلاء القوات المحتلة، واستغاثتهم بها بعد سقوط ثلث الأراضي العراقية بيد عصابات داعش، عن هذه الوقائع الغرائبية، وعن كل هذه المتاهات التي ورطونا بها، بفعل مجاراتهم لسكراب المزاج الشعبوي والحرب النفسية المكثفة ونجاحها في خلط الأوراق، وقلة حيلتهم في إدارة وصناعة القرارات المناسبة لمثل هذه المنعطفات والخيارات الصعبة. إن إطلاق صفة “المحتل” على القوات الأميركية والأجنبية التي وصلت الى العاصمة بغداد في 9/4/2003 ومن قبل مجلس الأمن والأمم المتحدة لأسباب قانونية طبقاً للقرارات الأممية المتبعة في مثل هذه الحالات، لا يلغي حقيقة الدور الذي لعبته في استئصال سلطة الطغيان وكل ما يتعلق به من مؤسسات وتشريعات قمعية، لتسنح الفرصة مجدداً للعراقيين كي يتعرفوا على ما اغتربوا عنه طويلاً، أي الحرية وقيمها المناصرة لكرامة الإنسان والأوطان..
جمال جصاني
9 نيسان.. يوماً للحرية والاحتلال
التعليقات مغلقة