في البحث عن تلك الجمرة

ابتسام يوسف الطاهر

كان يضحك حين يسمع جدته تقول بعتب «لا بيده جمرة ولا بحلـﮓه تمرة» ثم تلسعه صورة اليد وهي تمسك الجمرة! لم يتوقف عند التمرة ولا سأل يومها عن المعنى، يعرف انها كانت تلومه، حيث ماطل كعادته في الذهاب للسوق..آه.. ما اكثر ما يئست منه، ولبست عباءتها لتقضي تلك المشاوير بنفسها.. لمَ لمْ يبال وقتها! لكنه الان يكاد يصفع الزمن لأنه لم يصفعه حينها. متى عرف المعنى؟ لا يذكر، لكنه تفلسف ان له علاقة بحياتهم سابقا، حيث لا دفء الا بالجمر، ولا غذاء غير التمر.
اين انت ايتها الحبوبة؟.. انت اكثر الناس من حملت جمرا لتدفئ الغير، او لطبخ الطعام لهم، واكثر الناس كان كلامك تمرا وعسلا .. ها انا ذا يتعذر علي النوم، وينأى كما خيوط الشمس وهي تبعد مستسلمة لجحافل الظلام.. ابحث عن جمرة بين رماد الزمن، وركام الايام ، جمرة لا لأطبخ طعاما، ولا لأبعد لسعات البرد، ولا حتى لأعمل لك «ركوة قهوة» مثل ما فعلت فيروز. جمرتي كلما علاها الرماد انفخه ببضعة حسرات ندم، فتتأجج نار ذكرى، او صور لأيام! أهي صحوة ضمير؟ «بعد وكت».. وما الفائدة ؟
هربتَ من امك وانت صغير لأنها لم تفعل مافعلته الامهات في الافلام الاجنبية.. لم تربت على كتفك..لم تقبلك لكي تستيقظ، لم تكوِ قميصك لترتديه قبل ذهابك الى المدرسة.. وطبعا انت لم تسألها مابها يوما! لم تستوعب كم الصغار، اخوتك..كل منهم يريدها له فقط..لم تستوعب حجم التعب، وهي تطبخ لفصيل مع الضيوف، ومتطلبات ابيك التي لا نهاية لها! فهربتَ لجدتك التي شعرتَ انها تفضلك على الجميع، فخبأت رأسك في حضنها الدافئ. فحظيت بمن تقبلك صباحا ومساءا..بمن تطبخ لك مع عمك الذي كان مشغول كل النهار.
وحين نبت ريشك، ماذا فعلت؟ لم تحتمل اي جمرة في يدك.. ولا استطعمت التمر في فمك.. هربت مع من هربوا.. اكتفيت بعناقها حين قالت لك وقد امسيت شابا وتشتغل «ياروح جدة..الحمد لله..لعلك تلحـﮓ على ضيمنا» فالعم فصل من عمله بسبب رأيه السياسي.. وانت كنت تستنكر اهتمامه بالسياسة، من دون ان يلتفت لسعادته! وابيك يصارع الايام من المحل الذي اشتراه في زمن الخير، لعله يهب على وجه الدنيا.. لكن الدنيا لم تفكر بالفقير لكي «يهب» ولا تعنى بغناه فهي دوما تريح الغني وتزيد الفقير تعبا وفقرا.. ولكي توقف طموحه سلطت اغبى رجل ليدمر البلاد ويعرضها للحروب ومن ثم الحصار الذي اضطر الاب ليبيع المحل كي يوفر لك تذكرة السفر! فهربتَ لأنك لا تملك جمرة، ولا حتى تمرة ..
ينصت لصوت المسجل الذي جعله يعيد «الكاسيت» كلما انتهى..فما زلت تعيش الماضي، لم تعرف الاقراص المضغوطة، ولا اليوتيوب وبحره اللامتناهي.. تمرّ فيروز وصوتها ..وشجرة الايام.. كرمالك، كرمال عيونك..مش فايئة حكيت معه..ياربع في حماك.. وناسية كل الجروح الماضية، وراضية.. سمعت الجيران بيئولوا يمكن يكون عم يضحك عليها….. تمر جنائز لأيام، لأحلام، وأماني .. لتمني «ومانيل المطالب بالتمني». انتفض من فراشه مع دمعة مرّة عاندها طويلا لتذيب غصات تحجرت في البلعوم.
ما الفائدة.. ما جدوى الجمرات التي تستعذب لسعاتها اليوم.. أبَعدَ الانانية تعيش المازوشية؟ كانت امامك فرصا عديدة لتستغفر، لتحمل جمرة بيدك تدفئهم يوم كانوا يقطعون الاشجار للتدفئة.. لتبادر بعمل يزيح بعضا من رماد ذاتك، يمحي عن قلوبهم وعن قلبك كم الغصات والندم.. ان تقول كلاما بطعم التمر .. بل انت لم تكلف نفسك الم مهاتفتهم خوف ان تسمع ما يقض مضجعك.. هههههههه وانت لا يقض مضجعك غير جفاء الحبيبة! وتساؤلك ما الذي جنيته؟ او ماذا ينقصني لأحظى ببعض الحب؟..
هاهو الزمن يبتلع سنواتك كما يبتلع الرمل قطرات المطر. جعلتها تنساب مسرعة وانت .. رفضت لغة من هربت اليهم، ففي لحظات تجليك المعتمة «انها خيانة ان نتعلم لغتهم»! وغضبتَ وقاطعتَ من ضحك من رأيك «بل تعلم لغة الغير تجعلك في منجى». فحرمتَ نفسك من فرصة عمل تقيك العوز والجوع. مستسلما لخدر كسول.. حتى وصلت لأن تختار البار الذي فيه طاولة عليها كؤوس تركها اصحابها نصف ملأى..تدعي لنفسك ان تلك الكؤوس لك. ولا احد يصدقك غيرك..فتلك العيون الراثية، او المستنكرة، واللامبالية، والساخرة تقض جلستك فتطردك نصف سكرانا.
مرت أمامه امه تعاتبه، وصورته وهو يلوح بيده متذمرا «تعرفين تسكتين؟ كلما تشوفيني تشغلين نفس الاسطوانة»..
صاح بأعلى صوته غير حافل بالجيران: اللعنة عليكَ ..هل عرفتَ الان ماذا ينقصكَ..
يا صاحبي.. ينقصك الكثير.. ينقصك الجمرة والتمرة وما بينهما.. من يمنحه الان جمرة ليحملها راكضا صوبهم قبل فوات الاوان!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة