أساطير العقائد ورمزيات الطقوس

ناجح المعموري

ظلت حفريات د. مالك المطلبي مثيرة باستمرار ومحفزة للقارئ في اعادة القراءة والكشف عن الطاقة الدلالية المخبوءة فيها .ونحن نعرف جيدا بأن الشفاهيات مكتنزة بالمعاني ، والتي تحوز عليها دائما وباستمرار، لأن حضورها الدائم يمنحها القدرة على التواصل في المحيط الاجتماعي، واستدعاء العقل الشعبي للتآزر الرمزي مع الحضور الشفاهي ،من أجل انتاج المعنى .وهنا تتضح أهمية الشفاهيات الكبرى في الحياة العامة للجماعات القادرة على التخيلات والتوجه نحو الطقوس والعقائد ،للإنتاج الرموز وتوفر لها فرصة التجاور بعضها مع البعض ، لتشكيل شبكة رمزيات ، وسأحاول المرور مرة ثالثة على المعنى العميق الذي انطوت عليه العقائد والطقوس المندائية وقد نجح د.مالك المطلبي في صياغتها شعرية وكأنه يستعين بها على كمون شعريته في داخله في داخله منذ زمن طويل لذا أنا أعتقد ، بأن المطلبي توصل الى طريقة جديدة في الكتابة وشحنها بشعريات عالية .وأول ملاحظة تثار حول صياغة العقائد المندائية هي الذهاب نحو النماذج الأولى / البدئية ، او عناصر نظرية الخيال ،لأنه يدرك بشكل ممتاز ما تعنيه الرموز الأولى ، أو المسميات الأولى كما أطلق عليها هو ويتعامل معها، ليمنحها يقظة جديدة ، وكأنه كان وظل يحكم باللحظة التي عايش الطقوس عندما كان طفلا، واحتفظ بالمرويات في داخله معطلا الإعلان عنها، بعد عقود عديدة. وحتما أخضعها لمكوناته الثقافية والمعرفية الجديدة .
ذكر المطلبي مصطلحا خاصا له، ومنحه مفهوما اجرائيا دخل مشاركا في ثنائية العلاقة بين المسلم والصابئي المندائي وهو» الأرغام الأقوسط الجماعات الشعبية تصادي «اللاعب الماهر رمزيا، وقد اقترحه المطلبي بذكائه ،لالتقاط ما يساعده على ابتكار شفاهية مساعدة على تعطل القطيعة بين الطرفين ،بسبب التحريم والموقف الثقافي الإسلامي وتمثل الإرغام الاقتصادي بوجود استعداد روحي لقبول ما ينتجه المندائي ويحتاجه المسلم ،مثل صناعة الزوارق وصياغة الفضة والذهب .ويعني هذا بأن التحريم تعطل مؤقتا بسبب الاحتياج لمنتوجات الآخر وحتما كان الصابئي المندائي يعرف جيدا بأن التحريم لدى الجماعات لم يكن حقيقيا وفي جوهر الدين الإسلامي ، لكنه تمظهر لثقافة الجماعة الشعبية ضد المندائية ، وسأقدم قراءة عميقة عن علاقة التلامس التي تتبدى عن قبول الآخر ،من خلال تمظهرات عمله اليومي الفني والجمالي عبر انتاج الزوارق والصياغة تحقق في اللحظة الكونية الأولى اتصال ادخالي بين السماء /آنو والأرض / الأم الكبرى بواسطة المطر ،ونتج عن هذا الاتصال انبعاث الأشجار والتي هي من الرموز البدئية التي قال عنها هايدجر عندما تحدث عن غابته السوداء بأن الشجرة مغذية للروح بالشعر. وذكر فيلسوف الشجرة الفرنسي بأن الشجرة أعمق الرموز التي عرفها الأنسان ووضعها وسط فضاء التداول العقائدي /الطقوس / وظل متحركا ، حتى حاز على شبكات دلالية منذ البدء ،وظلت متمتعة بحضور شعري .
اشتغال الصابئي على جذع الشجرة[ التي تعاود انبعاثها ثانية وتستمر بمنح الأنسان ثمارها ]يفضي الى تحول آخر، لكن هذا التحول لا يشطب على المرأة ، بل يعيد صياغتها رمزيا عبر الزورق الذي تتمظهر فيه المرأة رمزيا – كما ذكرت – واذا نظرنا اليه من الشمال والجنوب ، سنرى المثلث العاني دال على العضو الأنثوي ،وهذا يفضي الى حضور جديد للأم الكبرى، عبر رمزية الأنثى ، ولابد من فحص آخر لتحولات الشجرة / الأم / الزورق ما يومئ اليه من معنى آخر، وهو الوظيفة الاتصالية بين ضفة واخرى، جماعة وفرد أو مجموعة أفراد ، كما يسهل عملية الانتقال والعبور وحتما لها دلالة رمزية أعمق مما هو في المعنى الظاهري ، ووجدت القراءة تناغما بين المعاني المتعددة وبين حضور المثلث العاني / الأنثوي ومع الدور العقائدي للأم وحضورها في الطقوس المائية مع الدور السحري الصياني للأم الآدمية ،أثناء عبورها النهر وعودتها مع تمثلاتها المستمرة .هذا كله من ممنوحات الشجرة التي قال عنها يونغ بأن الأشجار تمنح الناس القوة . «وان نظرية يونغ حول الدور التعويضي للأسطورة في الثقافة مبنية على التشابه الجزئي مع الدور الذي تلعبه العوامل اللا واعية فيما يتعلق بالعقل الواعي ، عندما يحفز النموذج البدئي «باستقلالية عن الإرادة ،في حالة نفسية تحتاج التعويض بوساطة نموذج بدئي «/ ستيفن .ان ووكر /ت : جميل الضحاك /وزارة الثقافة /دمشق /2009/ص44 / تحولات الأسطورة الخاصة بالمسمى الأولى تشبه تحولات الحلم عند حصول مرويات عديدة ،متكررة له، لأنه – الحكم – لا يختلف عن الأسطورة ، لذا كانت تحولات الشجرة مقبولة لأنها متعايشة مع الجماعات ،وستتضح ابداعات المندائي في صياغة الفضة والذهب باعتبارها حوارا لمسيّا مع الآخر، ليست بعيدة عن فضاء الأم الأنثى، وتجميلات الجسد الأنثوي ،منذ لحظة تحققها الأولى هي من ابتكارات الألوهة المؤنثة . لأن عتبات الحضارة السومرية من انتاج الأم الكبرى لفترة طويلة جدا. واذا ابتدأت بالفخار وما تحتاجه كزينات الجسد الأنثوي ، فأنها تطورت لاحقا بالقلائد والدلايات وظلت هكذا متحركة تدريجيا حتى وصلت الى عتبة تجميلات رفيعة ،مزدهية بالمادة الأولية الفضية /الذهبية مع تطعيمات أحجار كريمة ثمينة جدا تتباهى بها المرأة وتتعامل معها بوصفها خزينة لها ،وتضفي عليها بروزا بعلاقة الجسد معها وتمنحه هي بهاء .
كشف « الإرغام الاقتصادي «الذي قال به المطلبي كل هذه التداعيات التي استدعتها الميثولوجيا بحضورها المهيمن / والمهيب ذات صلة عميقة مع الجسد الأمومي/الأنوثي وسنستمر في التقاط الألتماعات الأسطورية ذات البلاغة الحيوية والراضية بالانفتاح على الفحص العميق والذي تضمنته سردية المطلبي الخاصة ب «صياغة العقائد « مالك المطلبي /ذاكرة الكتابة /حفريات في اللاوعي المهمل /ديوان المسار للترجمة والنشر /2007 .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة