لوكية الشارع

انتشرت لدينا وبفعل التدهور الشديد للوعي والتنظيم في المجتمع ما يمكن أن نطلق عليه بـ (لوكية الشارع) وهم أعداد غير قليلة من متقمصي العناوين والتسميات الثقافية والأكاديمية والسياسية. إذ نراهم لا يفوتون مناسبة هامشية أو مؤثرة إلا ودمغوها بآراءهم ومواقفهم المتسرعة وغير المسؤولة، ولا سيما ما يتعلق منها بالقضايا المحركة للشارع العراقي الراهن، والذي يعرف القاصي والداني نوع الهموم التي تشغله. هذه الشريحة والتي تضم كتّابا وإعلاميين وأدباء وفنانين وأكاديميين، يشتركون بالعديد من الصفات أهمها؛ أنهم جميعاً لا يكلفون أنفسهم مراجعة ما تخلفه إسهالاتهم ومواقفهم من أضرار، ولو جمعنا عينات من فضلاتهم في المحطات والمناسبات التي مررنا بها في الأعوام الأخيرة، لاكتشفنا الدور الحقيقي لهم، عبر دغدغاتهم اللجوجة لغرائز الحشود المتدنية. سلسلة مواقف هوجاء وبعيدة عن الحكمة من أحداث وقعت وأخرى لم تحدث أصلاً، إلا في مخيلاتهم المسكونة بشيطنة الآخر وتشويه سمعته. سلوك وممارسات تتنافر وخصال المثقف والأكاديمي والباحث والإعلامي الحقيقي، الذي لا يجامل وعي القطيع وحسب بل يتصدى له بشحاعة، ليكشف عن قبحه وأضراره الجسيمة على مصالح المجتمع بشكل عام وحامليه بشكل خاص، وهي الشريحة التي تكرس كل مواهبها وقدراتها لانتشال الجمهور من لعنة الآراء والمعتقدات الديماغوجية والتهريجية، والتي تنشط بشكل كبير زمن التصدعات والمنعطفات التأريخية الحاسمة.
مثل هذه النشاطات والتوجهات المتخصصة في تملق الشارع (الجمهور عاوز كده) هي من أسهمت مع غيرها من العوامل؛ بكبح إمكانية ولادة ونمو قيادات وملاكات قادرة على النهوض بمهمات التحول الحقيقي صوب الديمقراطية وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أساس الحداثة ومنظومة القيم التي ارتقت بالأمم الحرة الى ما هي عليه اليوم. بالرغم من مرور وقت طويل على زوال الدكتاتورية (14 عاماً) لم يحظى سكان هذا الوطن القديم، بزعامات وأحزاب وتنظيمات فاعلة وقادرة على انتشال مشحوفنا المشترك، بل تستمر فصول إعادة تدوير الكتل والمخلوقات نفسها خلف واجهات شتى، وهذا لم يحصل من دون الإسهام الفاعل لـ (لوكية الشارع) في إجهاض عملية النمو الطبيعي والتدريجي للبدائل والانبثاقات المنشودة، ليبقى المشهد العام على ما هو عليه من لبس وغموض وضياع وعتمة، وانعدام أية خطوات جادة ومسؤولة صوب التغيير والإصلاح الحقيقيين.
عدد غير قليل من المنتسبين لنادي هذه الشريحة التي أشرنا إليها، يستعينون بالشارع ويتملقون بشكل مزري حاجاته الشعبوية والعابرة، لا لشيء سوى استعماله كهراوة وورقة ضغط بالضد ممن يعتقدونه قد حرمهم من حصتهم ومواقعهم في الوليمة الأزلية. لذلك تجدهم لا يتوانون عن انتهاك وتسفيه أجمل الشعارات والحقوق، من أجل الوصول لغاياتهم البعيدة كل البعد عن روح ومغزى تلك الحقوق والمفاهيم الحضارية. وقسم آخر من هذه الشريحة لا يختلف فهمه ووعيه لتلك الشعارات، عن فهم “الشارع” واستعماله لها، ويجد في مثل هذه المشتركات ميزة له، بوصفه ممثلا لتلك التطلعات، وهو بذلك ينطبق عليه المثل “يجمل الغركان غطة”. لقد حذّرنا مراراً من مخاطر الاستعانة بـ “الشارع” ودغدغدة غرائزه البدائية، لا سيما ممن يدعي الانتساب للانتلجينيسيا العراقية، والتي يفترض بها ممارسة نشاطات وأدوار أخرى، غالباً ما تكون صادمة لقناعات “الشارع والجمهور” وهذا ما ينبغي الالتفات له، إن شئنا مغادرة مهرجانات الدقلات والاستعراضات الخاوية.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة