بين آونة وأخرى تندلع الاشتباكات بين معسكري الإسلامويون (رسمي وشعبي) من جهة، وأفراد وجماعات مشتتة لا حول ولا قوة لها من جهة أخرى؛ حول مسألة الحقوق والحريات الفردية المنتهكة من قبل الطرف الآخر المستند الى إرث عتيد من “الحملات الإيمانية” ومحاكم تفتيش المؤمياءات المنفلتة. مرة حول نشاطات فنية يراها الطرف الأول خادشة لحياء الأمة وثوابتها (سيرك البصرة على سبيل المثال لا الحصر) وأخرى جرّاء صدور تشريعات وقرارات تمنع بيع وعرض المشروبات الكحولية، وأخرى حول حجاب “القوارير” والأزياء الشرعية الواجب ارتدائها، وغير ذلك الكثير من الجبهات التي تفتح هنا وهناك حول مثل تلك القضايا، التي تنتهك حياء وزهد وتقوى الطرف الأول..؟!
إن التجربة قد برهنت وبما لا يقبل الشك، بأن جميع مدارس الإسلام السياسي، بشتى عناوينها وتسمياتها وادعاءاتها، لا المحلية والإقليمية وحسب، بل حتى من ولد وترعرع في الغرب وأصقاع العالم الأخرى، وانضم لتنظيماتها وواظب على حضور نشاطاتها العبادية والعقائدية؛ قد تحصن بنحوٍ لا يمكن أن تتسلل اليه عدوى الحريات الفردية، والتي يعدها الكثير منهم بوصفها “فساداً في الأرض” وعدواناً على الله ورسوله. صحيح، إنهم يتراجعون أحياناً عن بعض خطواتهم وقراراتهم في هذا المجال، تحت ضغط ما تبقى من ردود فعل طبيعية حول تلك الانتهاكات للحقوق والحريات؛ لكن ذلك لا يعني أنهم قد أذعنوا لهذا الأمر، لأنهم سيعيدون الكرة الى ما لا نهاية حتى يحققوا الفردوس المفقود، عبر تحشيد ما يكفي من قوة ضاربة تمحق عدو الله وعدوهم..
يقولون إن عصابات داعش الإجرامية لا تمثل الإسلام، وهي عبارة صحيحة ولكن يراد بها باطل، لأن داعش لا يمكن أن تمثل الإسلام كدين ومشوار طويل مع عيال الله وقضاياهم، لكن الإسلام كدين شيء والإسلام السياسي كآيديولوجية ونشاط يهرول بشغف للوليمة شيء آخر، وقد ألحق الأخير؛ أبلغ الضرر بقضايا ومصائر شعوب هذه الأوطان المنكوبة، وداعش مثلت أعلى مراحل الإسلاموية، أما الذين يدعون الاختلاف عنها، فاختلافهم ليس في الأهداف النهائية بل في سبل وآليات الوصول لتلك الغايات. يمكن التعرف على ما يضمره الإسلامويون من شتى الرطانات والسرديات، من خلال موقفهم من (العلمانية) والتي يعدّونها عدواً لدوداً، مما جعلهم يصفونها بأبشع وأقبح الأوصاف، وهي المنظومة التي أهدت عيال الله، كل هذه الشرائع والمدونات التي انتصرت لكرامتهم وحقوقهم وحرياتهم بعد انتظار طويل، وهي بريئة كبراءة الذئب من دم يوسف، من كل ما ألصقوه بها من موبقات وتهم لا عد لها.
كل شعوب وأمم هذا العالم الذي حولته الثورات العلمية والقيمية الى قرية، يتفقون على حقيقة أن الحريات الفردية لم تتحقق بهذا الشكل الواسع والعميق، إلا بعد أن ظهرت العلمانية وسادت، وهي بريئة من كل تعصب وانحياز، حيث تنظر بحياد تام الى اختلاف الناس وتعدديتهم وتنوع أفكارهم واعتقاداتهم، ومن دونها تعجز النظم السياسية والقانونية من النهوض بمهمة الدفاع عن الحقوق والحريات الفردية التي تشكل أساس ازدهار واستقرار المجتمعات والدول الحديثة، وهذا ما لا تطيقه الجماعات التي صادرت الدين بشعار دمارها الشامل (الإسلام هو الحل)..!
جمال جصاني
الإسلامويون والحريات الفردية
التعليقات مغلقة