عاصم جهاد
من التقاليد الحضارية الجميلة للمجتمعات المتقدمة مشهد تأدية اليمين الدستورية لأعضاء مجلس النواب كبداية لانضمامهم رسمياً إلى عضوية البرلمان، أو مشهد ترديد “اليمين” أو القسم للمسؤولين التنفيذيين قبل تسنمهم المناصب الوزارية والإدارية.
ومن المتعارف عليه أن هذا القسم الذي يردده النائب أو المسؤول ويتعهد من خلاله بالمحافظة على النظام الجمهوري والديمقراطي، وأن يحترم الدستور والقانون، وأن يرعى مخلصاً مصالح الشعب ويسهرعليها، وأن يحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه ومياهه وسمائه وأن يحافظ على وحدته ويعمل بأمانة وشرف لتحقيق كل ذلك.. لكن ومن خلال تجربة العقود والسنوات الماضية.. يبدو أن “القَسم” أو “اليمين” يصبح في خبر كان عند أغلبية النواب أو المسؤولين، ويتبخر تدريجياً مع مرور الوقت بمجرد خروجهم من القاعة أو عند جلوسهم على المقعد الساحر الذي ينقلهم من حالٍ إلى حال..! ومن واقعٍ متواضعٍ إلى حيث الرواتب العالية والامتيازات والحمايات والعلاقات والرفاهية والنجومية والتصريحات والتصريخات والإيفادات والصراعات والمساومات!
إن عملية تأدية وترديد اليمين الدستورية تذكرني بقصة القسم أو “الحلف” الذي ردده جارنا “أبو خالد” الشرطي المتقاعد الذي ناهز عمره السبعين عاماً، لكنه مع هذا كان محافظاً على حيويته ونشاطه ولياقته البدنية كما لو أنه ابن العشرين لأنه كان يقطع عشرات الكيلومترات يومياً مشياً على قدميه.
كان “أبو خالد” فضولياً وحشرياً.. يستيقظ مبكراً كل يوم ليبدأ نشاطه الاستطلاعي لمحلتنا والأزقة التي تحيط بها من ساعات الصباح الأولى حتى غروب الشمس.. وهو على هذا المنوال منذ إحالته الى التقاعد بسبب تجاوزه السن القانوني.
في ظهيرة أحد الايام وبسبب فضوليته أراد منع أولاد الجيران من اللعب في ساحة كرة القدم القريبة من منزله، وعندما رفض أحدهم تنفيذ أوامره غضب أبو خالد واقترب منه وبدون شعور رفع يده وصفعه بقوة.. ما أحدث تغييراً جوهرياً وترسيماً جديداً للحدود في خارطة وجه ابن الجيران “عامر” الذي هرول باكياً لإبلاغ أهله بهذا الاعتداء الأثيم!
وكان من سوء حظ “أبو خالد” أن “أم عامر” سيدة “سليطة اللسان” تتقن فنون الهجاء و”متعودة دايما ً” على النزاعات والحملات الإعلامية والمعارك الداخلية وبكافة الأسلحة والوسائل المتاحة.. فما كاد أبو خالد يجلس أمام التلفاز حتى سمع صوت جارته “أم عامر” قرب الباب الرئيسة لداره وهي تحدث ضجيجاً يزلزل الأرض مطالبة أياه بالخروج الى الباب لمواجتهها، كان “أبو خالد” يعرف جيداً من خلال المعلومات والتجربة اليومية.. أن لا مجلس الأمن ولا حلف الناتو ولا منظومة الدرع الصاروخي باستطاعتهم إيقاف صواريخ :أم عامر” اللسانية وهجماتها الكلامية ! وما أن خرج وأصبح وجهاً لوجه مع “أم عامر” حتى “استلمته” .. بسيل جارف من الاتهامات: “أبوخالد شلون تضرب ابني وتورم خده مو عيب عليك.. مو أحنا جيران شنو تريد تقلد دول جوار العراق؟
قاطعها وأخذ يقسم لها بأغلظ الأيمان أنه لم يضرب ولدها.. لكن هذا الادعاء لم يوقف لسان جارته وتهديداتها التي تصاعدت أكثر من السابق ورفعت سقف مطالبها باللجوء الى “الفصل العشائري” لرد الاعتبار للعائلة التي تجاوز عليها “الشرطي ” السابق، فما كان من “أبو خالد” إلا الدخول الى منزله بسرعة قائلاً لها: “فد لحظة.. دقيقة وراجعلك وراح أثبتلك أني بريء مما تتدعين!” وماهي إلا لحظات حتى أحضر كتاباً سميكاً مغلفاً بورق صحيفةٍ مستهلكة وقال لها بعد أن وضع يده اليمنى على الكتاب: “أقسم بهذا الكتاب أني لم أضرب ابنك ولم أقترب منه ! وكرر هذا القسم لثلاث مرات!”
وبهذا “القسم” ألقى عليها الحجة وأثبت مصداقيته أمامها والدليل أنه أقسم على كتاب الله بحسب ادعائه ولم يترك مجالاً للشك بموقفه البطولي والشجاع … ما اضطرها الى أن تسكت عن الكلام المباح .. لتنصرف وتعود أدراجها وهي تمتمت و تلعن وتُكذب ولدها الذي أحرجها مع جارها المسن الذي أضطرته الى القسم على كتاب الله وهذا بمعتقداتنا وتقاليدنا أمر عظيم وليس بالأمر السهل والهين!
أما أبو خالد فقد تنفس الصعداء.. لأنه تخلص من وجع الراس ومن مشكلةٍ كبيرةٍ كادت أن تطيح به، وبينما هو على هذا الحال جاءت ابنته الطالبة التي تدرس في مرحلة الثاني متوسط تسأله عن كتاب اللغة الإنكليزية.. الذي استعاره منها قبل لحظات وغلفه بصحيفة قديمة، فتبين أن الكتاب الذي جاء به و أقسم عليه أمام جارته “أم عامر” هو كتاب اللغة الإنكليزية للثاني متوسط وليس “القرآن الكريم”!
إن سلوكيات وأداء الكثير من أعضاء مجلس النواب أو من تسنموا مناصب تنفيذية ولم يفوا بوعودهم أو حنثوا بقسمهم .. تجعلنا نشكك بطبيعة تأديتهم اليمين الدستورية.. التي قد تكون على طريقة ” قسم” أبو خالد الشرطي!
- ضوء
طلع البَ..رلَمان ..علينا .. بغياباتٍ وخلافاتٍ وخِصام!