صلاح محسن
لماذا الشعراء في الزمن الرديء؟ ما جدوى الشعر؟ ما قيمة الشاعر الذي يحترف مهنة الكلام؟ تتطاير الكلمات من فمه بألوان مملوءة بالفراغ ، ما قيمة الشعر إنْ لم يكن رؤية، إن لم يكن نبوءة إن لم يكن كشفاً ،إن لم يعمِّق معرفتنا بالوجود ويجعلنا ننصت لندائه. الشعر ليس للتسلية.
هولدرلين(1770-1843) يفيدنا هنا بالإجابة عن جميع هذه التساؤلات إلا أننا سنلقي نظرة عن بعض حياة هذا الشاعر الفذ ومن ثم نعود إليها، إذ إنّ حياته نفسها لا تنفصل عن هذا التساؤل اللامتناهي. ونظرا لتشعب هذه الأسئلة ستكون الإجابات مشتركة في الكلمات التالية، لأنّ ما يعنينا ليس الإجابة عن كل سؤال على حدة، بل لما تسلطه هذه التساؤلات من أهمية على هولدرلين.
بقي هولدرلين مجهولاً وشبه منسي،اكتشفه الباحثون قبل الحرب العالمية الأولى بقليل وحاروا في تحقيبه. أدبياً تحمس له الرومانتيكيون وبذلك رأوا أنَّ حياته وعذابه وجنونه تجعله واحداً منهم ، وبذلك يكون رومانتيكياً قبل الرومانتيكية، من هنا أبُهر بشعره فيلسوف الأعماق مارتن هايدجر (ت1976)ووجد عنده الإجابة، فوصفه بشاعر الشعر، وبذلك يضاف إلى طراز خاص من الفلاسفة هم الشعراء الفلاسفة وهو طراز تقليدي ألماني يمتدُّ إلى الفلاسفة اليونان القدماء ، ولا يختلف عنه الفيلسوف الفرنسي (جان فال)الذي يرى أن الشعراء وأهل الفن على نفس درجة الأهمية من الفلاسفة وليس من المستغرب عندما ينظر إلى أساتذته المفضلين دائماً من أمثال رامبو، وفان كوخ ، وريلكه، وسيزان ، باعتبارهم (منابع فلسفية).
هايدجر وبفعل هيامه بهولدرلين لم يكتف بالنظر إلى الشعر على أنه مصدر إلهام الفيلسوف فقط ، بل ذهب إلى أنَّ الشعر يُعد ضربا من ضروب المعرفة يقود إلى تبصُرات وحُدوس وكشوف معرفية تتجاوز العقل والمنطق ، والهيكل العظمي للغة ونحوها ، ممكن تسميتها بالمعرفة الشعرية ، فالشاعر يُطل على عوالم زاخرة لا مرئية ، فإذا كان الفيلسوف ينصت للوجود ، فإن الشاعر(الشاعر الحقيقي) قادر على الحوار معه واستنطاقه وسماع نداء المقدس وهي وظيفة نبوية بلا شك . فالشعراء على حدّ قولة :
أوعية مقدسة
تحفظ فيها خمر الحياة ،
وروح الأبطال .
ظل شاعرنا باحثاً عن فردوس طفولته المفقود مثل طفلٍ يُطارد طائرته الورقية التي انقطع خيطها الرفيع كروحه في يومٍ عاصف الريح ، فالطفل عنده صورة حية للأمل ، واليقين المحض للخير، إلى درجة أننا نستطيع اختصار الخير والجمال كُله في وجه طفل .
فالطفل خالد:
إنه بكليته على طبيعته ، ولهذا فهو جميل .
إن قهر القانون والقدر لا يلامسه ،
الحرية في الطفل وحده ،
فيه السلام ، وهو لم ينشق على نفسه بعد .
الغِنى كامنٌ فيه ، فؤادهُ لا يدري شيئاً عن ضنك الحياة .
إنه خالد لأنه لا يعرف شيئاً عن الموت.
وحنين جارف لمنبت روحه ، ومكان ولادته الذي هو الوطن الذي حمله بذاكرته ، ليس الوطن بمفهومنا الشائع حدود وأسلاك شائكة وأفكار كبيرة ، وطنه بلدة (لاوفن)
الصغيرة الهادئة الوادعة على ضفة نهر النيكار في منطقة (شفاين) وفي دير قديم يسميه الفلاحون هناك (القرية الصغيرة) ولد هولدرلين في العشرين من شهر مارس سنة 1770م ، أحب ففشل هام على وجهه في أرض الله الواسعة منادياً لماذا أنا في الزمن الرديء الحقير البائس ، في العالم الموبوء بالنقص ، نقص الآلهة الذين اختفوا ، ونقص الإله الذي لم يأت بعد .
إننا متأخرون جداً عن الآلهة
ومبكرون جداً عن الوجود
وقصيدة الوجود التي بدأت هي الإنسان.
هولدرلين هذا الزنبقة الشفافة الأكثر هشاشة وعرضه للفناء ،تحت شمس دنيانا القاسية ، يجر أذيال روحه مكابراً وباحثاُ عن ميتةٍ باسلة جسورة ، مثل ميتة الفيلسوف الوثني أمباذو قليس (نحو490-430ق.م) الذي قال بالعناصر الأربع لأصل الوجود ، الماء والهواء والنار والتراب ، فألقى بنفسه في فوهة بركان (إتنا) ليذوب في طبيعة الأشياء ويعود لأصله ، لكن هيهات فكتب قصيدة باسمه .
أمباذوقليس
أنت تفتش عن الحياة ، تفتش عنها ، ونار إلهية
تنبثق لأجلك من أعماق وتتألق ،
(ويغلبك) الشوق الجارف فتقذف نفسك
في لهيب (إتنا)
كم كان مجون الملكة يتمنى ،
أن يذيب اللآليء في النبيذ!
لو أنك ، يا شاعر ، لم تلق بثروتك
في الكأس الفوارة !
لكنك عندي مقدس قداسة الأرض ،
التي انتزعتك ، أيها القتيل الجسور!
ولكم أتمنى أن أتبع البطل إلى الأعماق ،
لولا أن الحب يمنعني .
لينتهي شاعرنا بنفس المصير ، لكن ليس في سويداء قلب الأرض هذه المرة ، بل في أعماق الجنون وصمته الرهيب ، فانطفأ عقله وعاش ما تبقى من عمره مثل كائنٍ بري ضارباً في صحراء الجنون ستة وثلاثين عاماً ،هولدرلين المسكين هكذا كان يسميه الناس ، مات هولدرلين …