جمال جصاني
منذ بداية السبعينيات من القرن المنصرم بدأت ملامح الحقبة الريعية تفرض هيمنتها على مختلف مناحي الحياة المادية والروحية، خاصة بعد القفزة الهائلة التي شهدتها اسعار النفط والغاز، حيث رفعت الصدفة الجيولوجية بلداناً كانت تقبع في ذيل قائمة المضارب والممالك الأكثر فقراً وتخلفاً في العالم؛ الى مصاف الدول الأكثر ثراء فيه. ولم تكتف الاقدار بهديتها هذه وحسب بل جعلت تلك البلدان حليفاً للمعسكر الغربي والذي سيكسب لاحقاً؛ الرهان والنزاع ضد غريمه الشرقي، والذي انهار بداية التسعينيات من القرن المنصرم، لتشرع الأبواب أمام انبثاقات غرائبية عجزت عن ادراك فحواها وتجلياتها الاخيرة ابرع معاهد البحوث والدراسات المتخصصة في عوالم الشرق المتخمة بالعجيب الخلاب من مغارات الخرافة والأساطير.
عصر الرزق الريعي وفتوحاته الكاسحة لم يستثن الحقل الاشد فتكاً في العالم الذي حولته الثورات العلمية والقيمية الى قرية كونية، أي الاعلام ومؤسساته الاخطبوطية ومنابره الورقية والسمعبصرية. وعن ذلك كتب رياض الريس قائلاً: (لقد جرت السيطرة على الاعلام المكتوب في الارض، وعلى الاعلام المرئي في الفضاء وأصبح النفط رئيس تحرير كل هذه المؤسسات، وبسبب تخلف الآخرين وعدم ادراكهم، بنى السعوديون خلال عشرين سنة مؤسسات اعلامية، لاغين امكانية المنافسة لانه لا وجود للرأسمال البديل والقادر على المواجهة). ويبدو ان سلطة النفط في رئاسة تحرير وادارة غير القليل من المؤسسات الاعلامية بدأت تتضعضع لصالح قادم جديد هو الغاز، كما نشاهده في السنوات الاخيرة من نفوذ متزايد لامارة قطر صاحبة الاحتياطيات الهائلة منه، حيث لعبت قناتها الفضائية العابرة للجنسيات (الجزيرة) دوراً غير مسبوق في اعادة صياغة عقل ومزاج شعوب وقبائل هذه البلدان. وفي مثل هذه الشروط والمناخات غير المتوازنة هجرت صاحبة الجلالة ورفيقاتها هيبتها المكتسبة عن تراكم قيمي ومعرفي طويل، لتنضم لحريم النفط والغاز..!
ما نشاهده اليوم من هرولات ضوئية الى الوراء، حيث هذيانات ما قبل المغفور له كوبرنيكوس من هياكل وعقائد ومشاريع تسترد مفاتنها (ليس آخرها الاعلان عن عودة الخلافة الاسلامية وتنصيب جنرال قرشي عابر لزجر الحداثة ومابعدها على سنامها الاعلى)، لا ينفصل عن عمليات التخصيب الواسعة والمعقدة بين طرفي الدمار الشامل؛ الاعلام الريعي والعقل الخرافي والاسطوري والذي لم تتعرض مملكته وثوابته لأي تصدع جدي، وبعد ان تبخرت حركات التحرر الوطني ومشاريعها في النهوض بهذه المجتمعات التي تخلفت عن ركب الامم الحرة لأكثر من الف عام وعام. ان مواجهة الهجوم الاعلامي المضاد للردة الحضارية والسياسية التي تعيشها المنطقة، لا يكون من خلال الارتماء الى الضفة الاخرى من التطرف الطائفي أو العرقي، بل يمر عبر التأسيس لاعلام ديمقراطي ومهني جاد يستند لحاجات المجتمعات الحيوية في العيش كافراد احرار كباقي الامم الحرة، وهذا ما جسدته الاجيال الجديدة التي خلقت الموجة الاولى من احتجاجات الربيع العربي. وكل من يعرف شيئا عما جرى عند الامم التي وصلت لسن التكليف الحضاري والاعلامي يدرك جيداً نوع المراحل التي اجتازتها، وكيف كان أمر تحررها من وزر العقل الخرافي والاسطوري شرطاً لامتلاكها ناصية الاعلام الحر والمستقل أو ما عرف لاحقاً بـ (السلطة الرابعة). ان تلقف قوى التخلف لبركات الثورات العلمية والتقنية في مجال التواصل والاتصال والاعلام، اتاح لها امكانية فتل عنق هذه الاجهزة المتطورة صوب الغايات الضد لروح هذه التقنيات والمنظومات، وغير بعيد عنا ما نضح عن فضائية (الجزيرة) التي جذبت الى شبكاتها ملاكات وكوادر متخصصة في مجال الاعلام والتعبئة والتجييش، حيث لم يمر وقت طويل على انطلاق انشطتها وبثها الواسع حتى انبثقت من تضاريس «خير أمة» ارتال وفصائل من مجاهدي وانصار ما بعد الحداثة؛ من فصائل المجاهدين في افغانستان وباكستان والشيشان، وقوافل البوكو حرام في نيجيريا وليس اخيراً ولادة الفردوس المفقود بعد غزوة الموصل الاخيرة (الخلافة الاسلامية) ومن دون ان تكلف نفسها في الالتفات قليلاً لكل هذا الحضيض الذي انحدرنا اليه من دون الناس جميعاً، بفضل الزعيق المبرمج لابواق ومنابر الغيبوبة المتورمة بسيول البترودولار.
ان النتائج الوخيمة لهيمنة سدنة الرزق الريعي على هذا الحقل الحيوي (الاعلام) بشبكاته المختلفة (المطبوع والمرئي والمسموع) لم تعد خافية لا على سكان هذه المضارب المنحوسة وحسب بل أصبحت واضحة تماماً للمجتمع الدولي، حيث تطايرت شظايا همجيتها وشراهتها اليهم. وكل من يتابع نوع تعاطي وسائل اعلامهم ومؤسساتهم السياسية والفكرية مع ما يحصل في مضاربنا الساخنة، يدرك حجم الانعطافة في خطابهم الموجه الينا، ولم تعد الانتقادات الموجهة للقوى الراعية للتشدد والارهاب محصورة خلف الكواليس والغرف السرية، بل اصبحت سافرة وواضحة، ولن يمر وقت طويل على هذا التحول حتى تتفجر تلك البؤر المتقيحة، والتي تم التستر عليها طويلاً بسبب من حاجات سالفة للصراعات الدولية السابقة، متطلبات انتهت صلاحيتها وآن الأوان لتسديد فواتيرها الصدئة.
ومع مثل التصدعات المقبلة يفترض بنا، نحن سكان هذا الوطن المبتلى بصراعات دول الجوار على تضاريسه، النأي بمشحوفنا المشترك عن المسارب الخطرة للصراعات الخاسرة لقوى التشرذم والتخلف، وانتهاج الدرب المجرب لسلالات بني آدم في مجال فك الاشتباكات العضال (المحلية منها أو الخارجية) عبر الاعتصام بعروة التحول الديمقراطي وروحه، لا اختزاله بآلياته من صناديق وعبوات بنفسجية ومفوضية متحاصصة، لا تقدم لنا غير نسخ مكررة من برلمانات التشرذم العاجزة عن اقرار الموازنات والتشريعات البديلة عن فضلات مجلس قيادة الثورة المنحل..!
ان احداث الموصل الأخيرة عرت وبما لايقبل التأويل حقبة الشراهة والتشرذم التي عشناها منذ لجظة التغيير الى لحظة الاعلان عن عودة الروح لمؤمياءات الخلافة الاسلامية، ولن تجدي نفعاً محاولات الترقيع ومحاولات متعهدي الحفلات التنكرية لترميم الكارثة المحدقة، للحفاظ على مواقع وامتيازات حيتان الهزائم المريرة التي المت بنا، لا سبيل امامنا غير مواجهة حقيقة ما جرى؛ الاسباب الفعلية والقوى والمصالح التي تقف خلف كل هذا الخراب واليباب المعرفي والقيمي. وهذا ما يجب ان ينهض به الاعلام، لا الاعلام المعتاش على فتات موائد الرزق الريعي وولائم «الهويات القاتلة» بل الاعلام الذي لم تلوح راياته بعد؛ الاعلام الديمقراطي الحر والمستقل، هو وحده من بمقدوره قلب الطاولة على قوارض الاعلام الريعي وشخير العقل الخرافي ونوباته المسعورة..