ليس هناك أدنى شك من وجود قوى وعقائد ومصالح وشبكات، تصل الليل بالنهار كي يبقى سكان هذا الوطن، من دون ذاكرة أو بذاكرة لا تتعدى كثيرا حجم ذاكرة الذباب. وإلا كيف يمكننا هضم إعادة تدويرهم لمفردة تسلل من خلالها إلينا كل هذا الخراب والهمجية والإجرام، وهي (قادمون) التي رفعتها أسنة رماح من قطع الطريق الدولي بداية العام 2013 لتتحول الاحتجاجات من قائمة مطالب، الى شعار إسقاط النظام الحالي ورفع علم النظام المباد، إذ لم يتأخر المجرم الهارب عزة الدوري في إعلان دعمه وتأييده لما أسماه بـ “الانتفاضة” والتي حظيت بدعم أطراف أخرى داخل العملية السياسية وخارجها. بعد التطورات الدراماتيكية وما نضح عنها من انتقال زمام الأمور في تلك المدن والقصبات “المنتفضة” لسلطة أحد أبشع العصابات الإجرامية في التأريخ الحديث (داعش) وما تمخض عن ذلك من مآسي وكوارث لحقت بالعراق بشكل عام وسكان تلك المناطق بشكل خاص (والقاصي والداني يعرف من تضرر ومن انتقل الى فنادق أربيل ومنتجعات دول الجوار..؟) تعرفنا جميعاً على الحصاد المر لشعار (قادمون يا بغداد).
بغداد لا تحتاج الى من يتوهم امتلاكه حلولا لها ولسكانها المتعددي المشارب والرطانات والأزياء، فهي العاصمة التي كانت دائماً ملاذاً لمشاريع الحداثة والتعددية المتناغمة وروحها المدنية العريقة، صحيح هي اليوم تعيش وضعاً استثنائيا ومغايراً لطبيعتها، لكن تحت ركام الانقاض وأسمال العقائد التي تتقافزعلى سطح شوارعها وساحاتها، هناك طبقات عميقة من الأمل والعمل اللذان سيعيدان رسم ملامحها واسترداد عافيتها. لم نعد بحاجة لفزعات وغزوات جديدة من البادية أو من الأطراف، فالثورات العلمية والقيمية تكفلت بتحويل عالمنا المترامي الأطراف الى ما يعرف بـ (القرية الكونية) وهي بذلك قد أغنتنا عن الاستعانة بالمساطر والتعاويذ القديمة، كل ما هنالك أننا بحاجة الى مزيد من الوقت وقليل من الهلوسات والهرولة خلف قناصو الفرص الشعبوية والجيل الجديد من سياسي وزعماء الصدفة.
ما زلنا وسط الحرائق والخرائب التي خلفتها لنا مفردة الشؤوم هذه (قادمون)، وها هي ذاكرة الذباب تتيح لها العودة مرة أخرى تحت وابل من النسخ الجديدة لـ “قميص عثمان”. لقد كتبنا وصرخنا مراراً وتكراراً حول اختلاف تجربتنا السياسية وما يواجهنا من تحديات مع بقية التجارب التي تعيشها بلدان المنطقة ولا سيما ما يعرف بدول الربيع العربي، ومع ذلك تصر قوافل (قادمون) على استعمال نفس الأسماء والعناوين واليافطات الخاصة بذلك الربيع من قبيل (التنسيقيات والانتفاضة وإسقاط النظام و..) والتي تجعلنا نزداد شكا وريبة في الدوافع الحقيقية للقوى التي تقف خلف كل هذه الفوضى المبرمجة. ان البطرنة السياسية في مثل هذا الظرف العصيب الذي يمر به العراق، لا تقل فتكاً عما تقوم به القوى المعادية لهذه التجربة اليتيمة، وهذه البديهية يفهمها العاملون الحقيقيون في النشاط السياسي، فتجارب المجتمعات والدول تتضمن الكثير من المحطات التي تجهض فيها مشاريع الإصلاح والتغيير على يد أو من خلال قوى مهووسة بالسقف الأعلى للمطالب والتحولات الجذرية من دون الالتفات الى صخرة الإمكانات الفعلية للتغيير (وهي غالباً ما تكون محدودة ومتواضعة)، وبذلك تجد تلك التجارب نفسها في الطريق الى جهنم من دون امتلاك أدنى فرصة للندم والأسف..
جمال جصاني
قادمون وأخواتها
التعليقات مغلقة