أيادٍ خفية

في كلمته التي يتناول فيها الأوضاع والتطورات في البلد، أشار السيد حيدر العبادي الى وجود “أيادٍ خفية” تسعى لإثارة الفوضى وعدم الاستقرار في المناطق الآمنة من العراق. وهي إشارة جاءت على خلفية ما جرى في البصرة من حوادث إرهابية واستفزازية مؤلمة، وكل من يتابع المشهد العام في عاصمة البلاد الاقتصادية، يأسف لما حل بهذه المدينة العريقة من تدهور وانحطاط في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية. إن من يقف خلف هذه الفصول المتواصلة من الفوضى وانعدام الأمن والخدمات وبالتالي الأمن والاستقرار؛ ليست “أيادٍ خفية” بل على العكس من ذلك، فهي جزء من منظومة تعمل بنحوٍ مكشوف، بعد أن تسللت الى جميع مستويات الحياة لا في البصرة والجنوب فحسب بل مدت هيمنتها الى كل تضاريس البلد من الفاو لزاخو.
قبل استلام العبادي لمسؤولياته الحالية، كان سلفه رئيس الوزراء السابق السيد نوري المالكي يهدد خصومه بسلاح “الملفات” التي بحوزته ضدهم، رحل المالكي ولم يكشف لنا شيئاً عن ذلك السلاح الرهيب..؟! كل هذا يدعونا الى البحث عن سر هذا العجز والخلل في مكان آخر بعيدا عن “الأيادي الخفية” و”الملفات” والتي بمقدور جميع المنتسبين للطبقة السياسية المهيمنة، استعمالها ضد بعضهم البعض الآخر. ما يجري في البصرة على سبيل المثال، يعد أنموذجاً للمدينة المستباحة من قوى ومشاريع ما قبل الدولة، حيث تصول في شوارعها ومفاصلها الحيوية كل أشكال الجماعات البدائية، وهي مدججة بكل أنواع الأسلحة ولا يعوزها سوى الطائرات والغواصات، وبلا شك سيعالجون مثل هذا النقص تحت غطاء كثيف من “الأيادي الخفية”.
ما نشاهده من أحداث ونزاعات ونزيف متواصل للأرواح والثروات والفرص؛ هي نتاج واقع محلي بالأساس، صحيح هناك من يستثمر في حقول هشاشتنا هذه، من خارج الحدود، غير أن المسؤولية تقع على عاتق من تنطع لإدارة امور البلاد والعباد بعد “التغيير”، عندما تعاملوا معها، لا بوصفها بقايا وطن ينتظر منهم النهوض بمهمة إعادة بنائه طبقاً لأفضل الاسس التي راكمتها تجارب الأمم والشعوب في هذا المجال؛ بل عبارة عن غنيمة أزلية و”مجهولة المالك”. إن استمرار وتعاظم خطر “الأيادي الخفية” وما يرافقه من دوران في حلقة قاتلة من المطاردات العقيمة؛ يدعونا الى البحث عن الشروط والمناخات التي تعيد إنتاج المزيد والجديد منها، لا اقتفاء أثر طيب الذكر دونكيشوت في حربه ضد طواحين الهواء.
إننا اليوم على أبواب تحرير ما تبقى من مدينة الموصل وبقية المناطق المحتلة، وقد جسد المقاتلين على جبهات القتال كل معاني البطولة والإيثار في الدفاع عن وطنهم وشعبهم، وصفحة التضحيات هذه لا تنسجم وما يجري عند الكتل السياسية المتنفذة وممثليها في السلطات العليا التي تدير شؤون البلاد المختلفة بأسوأ ما يكون نظرياً وعملياً، وما الموقف اللامسؤول من الحالة الأميبية التي سجلتها المفوضية المستقلة للانتخابات، للأحزاب التي تجاوز عددها الـ 200 حزبا وكيانا، إلا دليل فاضح على حجم اللامسؤولية في التعاطي مع مهمات التأسيس للمرحلة الجديدة في حياة العراقيين، والتي هي بأمس الحاجة لوجود احزاب وتنظيمات سياسية فاعلة تعيد بناء الهوية الوطنية وترص صفوفه لبناء مؤسسات الدولة الحديثة حيث الحقوق والحريات وسيادة القانون..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة