عبد السادة جبار
بعد مرور أكثر من 50 سنة يعود المخرج الفرنسي كلود ليلوش إلى الساحة الفنية في فيلمه الجديد «أيها الرجل نحن نحبك» الذي جمع فيه بين نجمين وهما المغني الأميركي المخضرم الشهير «جونى هوليداى» و «ايدى ميتشل»، إضافة إلى الممثلة «ساندرين يونار»، إذ يعرض فلمه الجديد في دور السينما الفرنسية، وبين بدايته الحقيقية العام 1966 و العام 2014، هناك 50 فيلماً، وعلى الرغم من أن ليلوش قد استفاد من مواطنيه المخرجين الشهيرين تروفو وجودار، إلا انه لم ينسجم تماماً مع تلك الآراء التي تهاجم الأسلوب الكلاسيكي للسينما فهو يقول «أنا تعلمت كيف استعمل الكاميرا من تروفو وكيف لا أستعملها من جودار، تروفو يتعامل مع الكاميرا وكأنها ممثل رئيس في الفيلم إما جودار فهي ممثل هامشي « بداية ليلوش العام 1966 كانت صادمة للأميركيين وللأوروبيين في فيلم (رجل وامرأة A MAN AND WOMAN). قد يبدو سيناريو الفيلم بسيطاً، حين قدمه إلى الشركات المنتجة امتنعت عن انتاجه بسبب قصته الرومانسية وتذرعوا بأن هذا النوع من الأفلام لم يعد رائجاً، لكن النتيجة كانت مذهلة حيث بيع في فرنسا وحدها 4 ملايين تذكرة وهذا الرقم يعدّ خيالياً بالنسبة لفيلم أوروبي ذي تكاليف إنتاجية ليست كبيرة، وقد حصد الفيلم جوائز مهمة، منها أوسكار أفضل فيلم أجنبي وأفضل سيناريو عام 1966، وعلى السعفة الذهبية في مهرجان كان للسنة نفسها، وجائزة ( أكاديمية الفيلم البريطانية ) العام 1968 لأحسن ممثلة لـ(انوك ايميه )، كتب الفيلم حينها وصنع كل تفاصيله كلود ليلوش.. وقام بالتصوير بنفسه.. ووضع له الموسيقى التصويرية « فرانسيس لاي «، وحصل على عدة جوائز عن عمله، إذ ذاعت شهرته وأصبح بسببها من أشهر الموسيقيين حتى وصلت الينا لتستخدم في الأفلام العربية.
سيناريو المصير الجديد
تدور أحداث الفيلم بشأن امرأة « آن « الممثلة ( انوك ايميه )، تعمل مراقبة سيناريو مع إحدى الشركات السينمائية تصطحب ابنتها الصغيرة الى مدرسة داخلية وتعود بالقطار كل أسبوع، وتصادف أن تتعرف على « جان لوي « الممثل ( جان لوي ترينتيان ) سائق سباقات أرمل جاء أيضاً مصطحباً ابنته الصغيرة إلى المدرسة الداخلية، في جو ممطر يقترح عليها أن تصحبه بسيارته حيث يدور حديث بينهما ليتعرف كل منهما على حياة الآخر، ويحكي كل منهما ماضيه آن تفقد زوجها بسبب ممارسته العمل في السينما كدوبلير ليتوفى في حادث انفجار وجان يفقد زوجته لتعرضه لحادث تفهم من الأطباء انه لن يشفى منه فتصاب بانهيار عصبي لتنتحر، هذا الهم المشترك يجمع بينهما ومع الصغيرين بأكثر من لقاء ومواعيد متعددة يعتقدان انهما قادران على الانسجام، إلا أن « آن « تجد نفسها في لحظات حميمية مع « جان « إنها لا يمكن أن تنسى زوجها فقد وشم معها طوال فترة الماضي ذكريات لا يمكن تعويضها بعلاقة جديدة، ينتهي الأمر بالافتراق.. تسافر مرة أخرى بالقطار، غير إن شعور جان الداخلي يحفزه على عدم ترك هذا الحب يذوي.. يلاحقها بسيارته من دون أن يتوقف لينام أو يستريح، تعيش هي في القطار ساعات من الاسترجاع لتجد نفسها إنها أسيرة لهذا الحب الجديد، تنزل من القطار لتجده أمامها، انه المصير الجديد، المستقبل الذي ينتظرها.
الإبداع في فيلم ستيني
يقال عن الإيقاع في السينما الفرنسية انه بطيء أو يخلو من الحرارة السينمائية المعروفة في الأفلام الأميركية أو الأوروبية، في الواقع عند تأمل هذا الفيلم ليس هناك أي حدث مفاجئ أو مثير للاهتمام ماعدا حادثي وفاة الزوج وانتحار الزوجة، وبالرغم من ذلك فان ليلوش لم يصورهما بتلك الإثارة المعروفة في السينما، على العكس لم يعطهما زمناً سينمائياً مهماً، لكنه صور نمو زهرة الحب بين آن وجان بعذوبة تصويرية مستفيداً من الموسيقى التصويرية الرائعة، كأنه يسقي تلك المشاعر بمزيج من الأسى القديم والصدق في الاشتياق في مناخ شتائي تتخلله الأمطار والثلوج. ليلوش صنع مزيجاً واعياً وجميلاً من الحداثة السينمائية استقاها من الموجة الجديدة بفوضويتها وبساطتها وشيء من الدراما الكلاسيكية الرومانسية بأفضل مالديها، وبالإمكان ملاحظة تلك الغرابة وكسر القاعدة في تصوير أجزاء كبيرة من الفيلم قد صورها بالأسود والأبيض بالرغم من كونها في الزمن الحاضر ليمنح الفيلم تركيزاً لهذا الحزن الشفيف ويوحي بالأسى الذي يقف حائلا أمام غرسة الحب الجديد، واستعمال الألوان بشكل معاكس في بعض مشاهد( الفلاش باك ) على الخصوص فيما يتعلق بذكريات « آن « مع زوجها؛ ليؤكد تأثير تلك الحياة الجميلة الملونة المليئة بالتفاصيل العذبة، على حياتها الماضية، وعدم رغبتها في نسيانها. يمنح الفيلم تعبيرية مميزة بكون البطلة لم تزل تعيش الماضي كحاضر أكثر من الحاضر نفسه، كما في المشاهد الأولى من الفيلم، حيث ترافق ابنتها ويرافق جان ولده الصغير بوصف الطفلين ثمرة من الماضي، لكنهما عندما يلتقيان في المطار يذوب الماضي في تلقائية وصدق مشاعر الحاضر ويتعانق آن وجان في المحطة وتقف الصورة ويمحى كل شيء من حولهما ليتحول إلى أبيض؛ مشيراً إلى بداية جديدة بيضاء في الواقع، كلود ليلوش قدم فيلماً بقي لفترة طويلة مميزاً ومثيراً للاهتمام ليصبح أيقونة سينمائية خاصة، تجذب المشاهد إلى متعة فنية تبعث في النفس البشرية أرقى المشاعر الإنسانية وأجمل معاني الحب والوفاء، يغوص المخرج في أعماق البطلة ومخاوفها من العلاقة الجديدة والجدران التي تحيطها لتسجنها في حقل الماضي، وأيضاً في أعماق البطل جان الذي لايجد في غيرها عيشاً سوياً للتعويض عن الفقدان. ضمن ليلوش فلمه أغاني جميلة والموسيقى التصويرية للمغني (فرانسيس لي) الذي أصبح يقدم بعد هذا العمل عدداً من الأغاني لأهم الأعمال السينمائية، كما إن أداء الأدوار التي لعبها الأبطال كانت على جانب كبير من الصدق والتحسس لتلك الشخصيات. الأداء المميز لـ» أنوك ايمي» التي استطاعت أن تقدم واحدة من أكثر الأدوار جاذبية وأنوثة، والأداء الرائع لجان لوي ترنتيان، دفع الفيلم ليحقق مستوى فنياً وتعبيرياً مذهلاً . فيلم « رجل وامرأة» نافس في وقتها أهم الأفلام الفرنسية والعالمية منها الفيلم السياسي المهم (معركة الجزائر) وفيلم ميلوس فورمان(من يعشق الشقراء) الذي أثنى عليه النقاد كثيراً.
فيلم « A MAN AND WOMAN»، تمثيل: جان لوي ترينتيان، انوك ايميه
سيناريو وإخراج: كلود ليلوش