قصة قصيرة عورة

نيران كريم

-كان من الطبيعي أن أبحث عن وسيلة للهجرة، أن أقدم أوراقي على كل المواقع التي تفتح بابها للجوء. سنة بعد أخرى، كما لا أخجل من القول إنني تواصلت مع عدد من المهربين الذين كانوا يحاولون إغرائي بالسفر بطرق غير مشروعة، طبعاً مقابل مبالغ مادية ضخمة، لكني لم أستطع منحهم الثقة لأسلمهم نفسي وحياتي.

-ما معنى كل هذه المحاولات لترك وطنك أنك لم تحبه يوما؟

-سؤال ساذج. الفرد وإن أراد كره وطنه لن يستطيع ذلك. الوطن كما الأم والعائلة، مهما رأيت بأنها سيئة وغير مناسبة لك، مهما حاولت التنصل من حبها تجدها متشبعة فيك. ليس أمامك سوى أن تحبها تحنو عليها وتتعاطف معها، تولد فيك هذه المشاعر جبراً دون رغبة منك. حتى وأنت تدرك بأنها لن تقدم لك أي شيء طوال حياتك.

-هل أنت سعيدة لأنك تمكنت من تحقيق حلمك؟

-صديقي عمران من المستحيل أن يكون التخلي حلماً سعيداً، لا بد أنه حزين. أنا وأن تخليت عن وطني، فليس لأن ذلك حلمي بل هو ضرورة لا بد منها، وها أنا ذا حرة مع أني غريبة! إن تجربة شعور الحرية يدعوك لدفع أي ثمن.

-ما نوع الحرية التي تمكنت خديجة من الفوز بها؟

-هذا سؤال ذكي. للحرية أشكال عديدة لكن أهمها ألا أكون عورة. بعض صور الحرية صغيرة مكونة من تفاصيل دقيقة، وبعضها الآخر جلي واضح للجميع. ومن المفترض أن نتمتع بالحريات الصغيرة حتى نطالب بالكبيرة منها. وأحد أسباب هروبي، هي عدم قدرتي على التمتع بأبسط حقوقي. في بلدي نشعر بأننا شعب مسلط لأذية بعضه. نعم بهذه الصورة. أتذكر جيداً حين كنت أعمل محاسبة لصالح أحد الشركات الأهلية في العراق. كانت المسافة بين عملي والمنزل غير بعيدة جداً، لا يأخذ الطريق سوى سيارة أجرة واحدة ثم القليل من المسافة التي أمشيها على قدمي. يومياً وعند عودتي إلى المنزل حين توشك الشمس على الرحيل. في ذلك الوقت بالتحديد، يكون الجو عطراً. يحلو لي بكثير من العزم أن أمشي في الشارع وأتطلع للسماء، أراقب الغيوم التي تتحرك متناغمة مع بعضها كأنها على اتفاق، نسمات الهواء الرقيقة التي تهب علينا بعد أن تتخلل الأشجار تكون منعشة. كثيراً ما يروقني منظر الأطفال وهم يلعبون، لكن هل تصدق أني ولو يوم واحد من السنوات الثلاث أمضيتها في تلك الشركة، ولا مرة واحدة تمكنت من تحقيق هذه الأمنية. قد تراها أمنية تافهة بسيطة، لا عوائق تقف أمامها لكنني وبكل بؤس كنت محرومة منها. فحالما أبدأ السير أقذف بمئات الكلمات عن جسدي أو مظهري أحياناً تصل إلى كلمات خادشة للحياء. أما عندما تصل إلى الشارع الرئيسي، فهذه مشكلة أكبر. يبدأ سائقو السيارات باستقبالك بحفلة، كأنك ترتدي بدلة رقص وسط مصلين في جامع. بعضهم فاسق، تعلم من نظراته أنه يمتع عينيه بمشيتك وتقاسيم جسدك. وبعضهم يسرق النظرات منك خلسة، تشعر بأنك تُغتصب رغمًا عنك. إنّ الشارع هناك مخيف، يمنعك حتى حق التفكير.

-إلى هذا الحد؟

زوت خديجة عينيها ثم سألته:

-أتعلم أنّ هنالك ما هو أسوأ مما تصفه بهذا اللحد؟

-كيف يكون؟

-في دولتي، يطلق على المرأة عورة. هل تفهم معنى أن تمشي في الشارع شاعراً بأنك عورة لا بدّ من مداراتها؟ ليس جزءًا محددًا منك، بل كلك، جميعك. كف يدك، رقبتك، قدماك، أصابع يديك والمسافة بين ساقيك، كتفاك. حتى عطرك، وألوان ملابسك، يجب ألا تكون لافتة أو مغرية. ماذا لو تسببت في إثارة أحدهم؟ يُنصح عمومًا بارتداء الألوان الداكنة والسواد، حتى لا تلفت الانتباه. لكنهم حتى مع الأسود يلتفتون إليك. ومع اللباس الشرعي، ينظرون إليك. وعلى عكس كل ما يسعون إليه للتنكيل بنا، نجد أن معدلات التحرش والاغتصاب تزداد أكثر بتكثيف القيود التي يطوقوننا بها. هناك لا يحق لنا السفر دون أخذ الإذن، ولا يحق لنا الزواج وفق قناعاتنا دون أن يضعوا قناعاتهم أولاً. يجب أن تكون منصاعًا لرؤية ونصائح وآراء الآخرين فيما يخص حياتك الشخصية! ليس من حقك أن تقرر عدم الإنجاب، فالناس يشعرون بأن لهم فيك حقًا. وغير بعيد أن يسعوا إلى مغالطتك فيما تؤمن وتعتقد. ليس من حقك أن تُضرب عن الزواج، دون أن تعترضك المئات من التساؤلات والاستفسارات التي تصل بك أخيرًا إلى الزواج. طبعاً في كل دول العالم تدخلات من المقربين، ولكنها تصل إلى حد النصيحة فقط. أما نحن، فالقريب والبعيد، وحتى بائع الخضر، يجيز لنفسه التدخل في حياتك الشخصية دون إذن منك، بالطبع لا يمكنك التصديق أن ليس من حق الفتاة عيش حياتها وحدها، بمعنى أن تكون مسؤولة عن نفسها فقط دون أن تلحق بها مسؤولية عائلتها وإخوتها والبيت والقيام على الاهتمام بهم. لذا وبسبب هذا، تمضي أغلب الفتيات سنوات مضنية من أعمارهن تحت سلطة أهاليهن، محكومات بأوامرهم دون أن يجرؤن على كسرها..

-برأيك لماذا يحدث كل هذا في أكثر بلدان العالم انتشارًا للإسلام والتدين والعمائم؟

-لا أعرف. حتى إن الكفار -كما يسمونهم- أشرف من كثيرين منهم. فنحن نمشي بينهم في الشارع، دون الشعور بأي نقص، دون أن يشعرونا من خلال نظراتهم أننا غواية وطريق ظلالهم. نحن نسير بينهم بكل ثقة وأمان، ويرون بأن من حقنا ذلك وليسوا متفضلين علينا به.

عند هذه النقطة أنهى عمران الوادي حواره الصحفي مع سيدة الأعمال خديجة الطائي، وكان هذا أول وآخر لقاء أجرته تتحدث فيه عن بداية مشوارها ونجاحها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة