ناصر كمال بخيت
تجمعنا كل ليلة حول النار، ولا سيما في ليالي الشتاء القارسة، لنشعر بالدفء النابع منها ومن النار المشتعلة في “المنقاد”، التي تظل تستعر في أكواز الذرة طالما عوضنا ما يحترق منها… نرفع أيدينا فوقها لتنبعث الحياة في أطرافنا المتجمدة بفعل هذا الصقيع الذي يقتحم عالمنا الجنوبي عندما تغيب الشمس ليلاً ثم يرحل رويداً رويداً مع بزوغها وسطوتها وقت الظهيرة… ترتفع أصواتنا إليها بإلحاح لتقص علينا حكاياتها أو كما نطلق عليها “حجيوات” فتمتنع في البداية، ولكنها سرعان ما تستسلم لطلباتنا، وخاصةً وأننا لا ننفك نمسك بطرف ثوبها ونجذبه نحونا مراراً وتكراراً؛ حتى توافق وتبدأ في الحكي… تعيد لنا كل الحكايات التي نحفظها عن ظهر قلب، ولكننا رغم ذلك نعيشها ونتفاعل معها كأننا نسمعها لأول مرة، فتبدأ بالشاطر حسن وست الحسن وأساطير الحيوانات وقصصهم، وكأنها شهرزاد ولياليها الألف… بعد أن تنتهي أمي من سرد كل ما لديها أظل مستيقظاً… أفكر في تلك الأهوال والأماكن الساحرة من جبال وبحار وغابات وصراع الوحوش فيما بينها، والتي طالما رسمت لها أشكالاً مختلفة في مخيلتي… أنام ولكن هذا العالم الأسطوري لا ينتهي، فتجول روحي عبر منازل وطرقات القرية ليلاً، ترتدي جسد قط لتتعرف على أسرارها لأعيش مغامرات لا تتوفر لي وقت النهار… لقد حذر الجيران أمي بعد ولادة توأمها:
– لابد أن تسقي التوأم لبن الناقة قبل مرور أربعين يومًا؛ حتى لا يتحول كل منهما لقطة ليلاً.
ربما غفلت والدتي عن ذلك ومرت الأيام الأربعون دون أن أشرب هذا العلاج السحري، فباتت لحظاتي كقط من أمتع الأوقات وأكثرها رعباً التي أمر بها… أعيشها كأنني شبح يتجول في الظلام… في البداية كانت روح أخي تؤنسني، ولكن بعد وفاته صارت روحي وحيدة تهيم عبر أسطح الدور المكشوفة حول منزلنا، ولم تتجرأ أبداً على العبور إلى خارج نطاق شارعنا، فما رأيته وما حفظته عن ظهر قلب من وصايا أمي والجيران يظل حائلًا بيني وبين كل ما هو خفي في القرية… فالجيران والأهل والأقارب يعرفونني جيداً كقط، ويرحبون بي عند قدومي، بل بعضهم يترك لي طعامًا كي أقتات عليه، أما الآخرون فلا يعرفونني، مما يجعلني عرضة للخطر والموت، فقصص التوائم التي ماتت أثناء نومها حاضرة في ذهني دائماً، فأحدهم مات نائماً بعد أن دهست سيارة قطا كان يعبر الطريق عن مدخل القرية، ومنهم من قذف بقالب طوب من ربة منزل بعد أن التهم قطع اللحم التي وضعتها في “زبدية” أعلى الفرن كعشاء خاص لها ولزوجها، فاستيقظ وهو يعاني من بطحة كبيرة في رأسه، أخذت تنزف أيامًا عديدة… أبدأ في الغالب بزيارة دار “عم محروس” جارنا البخيل، والذي كلما رآني صرفني ملوحًا بيديه لأبتعد عنهم خوفًا من أن أسطو على طعامهم، فأظل أموء له حتى يهددني بأن يبلغ والدتي؛ فأرحل تاركًا إياه يسب ويلعن في كل مرة. أما منزل “ست الحسن” جارتنا، فهو منزلي المفضل، فهي في الغالب تترك لي طبقاً مكشوفاً من اللحم لتشاهدني وأنا أتناوله، وتحكي لي في كل ليلة شعورها بالوحدة بعد رحيل زوجها، وكأنني صديق يشاركها همومها، رغم معرفتها المسبقة بأنني سوف أتذكر كل شيء في الصباح، ولكنها لا تهتم، فأنا مصدر الثقة الوحيد الذي تجده في عالمنا الجنوبي، الذي لا يرحم لحظات الضعف، ولا يؤمن إلا بالقوة والصلابة، حتى للنساء. فنحن نواجه بيئة خطرة بموقعها الرابض في حضن الجبل، وما يحتويه من أخطار جمة مثل ذئاب نسمع أصواتها تعوي ليلاً، أو ثعابين تتدلى لنا من شقوق الجدران والأسقف؛ لذلك لا يناسبها نعومة الحس أو ضعف النفس مقابل الظروف مهما كانت قسوتها… لقد نشأ الناس هنا على تقاليد القرية الصارمة التي تحمينا من النفوس الآمرة بالسوء، فكثير من الدور هنا تتداخل مع بعضها ومكشوفة بقدر يغري الآخرين باقتحام حرمتها لولا تلك التقاليد التي باتت بمثابة أسوار لنا… في نهاية رحلتي الليلية، غالباً ما أعرج على دكان عم “عمران” البقال المقابل لدارنا، وهو يهم بغلقه ليرحل إلى داره، ولكنه لا ينسى قبل ذلك أن يترك لي علبة سردين مفتوحة لأقتات عليها، ثم يضع حسابها على والدي الذي يرفض الدفع في كل مرة، فتقوم والدتي بسداد المبلغ نيابة عنه، بل وتبلغ البقال بامتنانها لرعايته لابنها، رغم علمها بأنه يستغل ذلك ليبيع لنا علب السردين الزائدة لديه، ولكنها تخاف الغدر منه بأذيتي بشكل أو بآخر.
تلك الليلة قررتُ أن أواجهَ خَوْفي ورُعبي من المجهول وأستكشفَ دروبَ القرية وما تخفيه من أسرارٍ مثيرة تقترب في غرابتِها من حكاياتِ أمي التي أسمعها قبلَ النوم، فللقرية أيضاً أساطيرُها الغامضة التي يخشى الجميع الدنو منها، ومنها مثلاً “منزل جهلان” الذي لم يجرؤَ أحدٌ على السكنَى به لأن حكاياتَ كثيرة قد انتشرت في القرية عن الأشباح التي تسكنه والجِنّ الذي يظهرُ للناس إذا اقتربوا من حدوده، وقد بناه صاحبُه الحاج “جهلان” على أرضٍ يوجد خلافٌ عليها بينه وبين أبناء عمومته، فكلا الطرفين يدعي ملكيتَه للأرض، فبادر هو بالبناء عليها مما تسبب بعراك راح ضحيته العديد من الرجال والذين سفكت دماؤهم على الأرض؛ وسُجِنَ من أجل ذلك كثيرٌ من أفرادِ العائلة ما عدا الحاج “جهلان” الذي لم يقحم نفسه في العراك، لأنه انزوى بعيداً يشاهد أخوته وأبناءه يتعرضون للضرب، وفي المقابل راحوا يدافعون عن أنفسهم بالسلاح مما أوقع بعض القتلى والجرحى، فراح يكمل بناء الدار ولم يبالِ بمن قتل أو سجن، ومنذ أن اكتمل البناء والشائعات لم تتوقف عن سماع أصوات صراخٍ تنبعث من المنزل ليلاً، ومشاهدة خيالات لأشخاص تتجول حول المنزل بملابس تغطيها الدماء. لقد صدقَ أهالي القرية جميعاً تلك الأقاويل ولا سيما وأنه لم يقطن أحدٌ بالمنزل منذ أن هجره أصحابه ولمدة ثلاث سنوات حتى الآن… وصلتُ الدار، والتي كانت مظلمة تماماً وهادئة أيضاً، قفزتُ من أحد النوافذ داخلها؛ فاستطعتُ رؤية الجدران والغرف الخالية فبدا كل شيء مألوفا، فالفرن في مكانها بأحد الأركان ودرجات السلم التي تقود للطابق الأعلى تغطيها الأتربة، فقفزتُ فوقها صاعداً لأعلى… تنقلتُ بين الغرف، فلم يكن أحد هناك، وعندما هممتُ بالهبوط وجدته يقفُ مقابلي… رجلٌ تغطيه الدماء من هامة رأسه حتى أصابع قدميه، وقد انغرست فأسٌ في رأسه وظلت في مكانِها. كان يشبه الكثيرين من أهل القرية بجلبابه الجنوبي المميز، والذي تلطخه بقع الطين والتي باتت تميل للون الأحمر بفعل الدماء… صرختُ من الرعب فخرج مني مواءٌ مرعبٌ، حتى أنني خفتُ من نفسي أكثر من الشبح… تذكرتُ بأني قط ليس من المفترض أن يخاف من العفاريت وعالمها الخفي، وفي الغالب لن يراني أو يعيرني انتباهاً، لكني وجدته يخاطبني قائلاً:
– لا تخف.
رددت عليه، فخرجت مني الكلمات مواءً عاديا لا يفهم له معنى، ولكن العجيب هو أنه فهم ما أقول… أخبرني أنه يريد العدالة لروحه الهائمة، فأخبرته: “لقد نال القتلة عقابهم” ولكني تذكرت أن من قتل بواسطة عائلة “جهلان” مات بسلاح ناري، بينما هذا الرجل قتل بفأس على رأسه، فسألته عن قاتله… راح يخبرني قصته، وأخبرني أن والدي هو القاتل في خلاف بينهم، لذلك استدعت روحه القلقة روحي المتجولة، فلبت النداء وجاءت… صدمتني كلماته، وأحسست بأن عالمي الذي كنت أعيش فيه قد تهاوى… قررت عدم العودة إلى المنزل، رغم علمي بأنه إذا لم أعد سأصبح جثة هامدة… بقيت بجانب الشبح الذي راح يحثني للعودة، لكني تجاهلت كل محاولاته وصراخه حتى لاح الصباح، ورأيت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة… ألقيت بجسدي على أرضية الغرفة مستسلمًا للموت الجميل.