تناولت أحد رواد الحركة التشكيلية العراقية منذ عقد الخمسينات
مهى سلطان
ما إن يذكر اسم الفنان رافع الناصري، حتى يقترن معه اسم رفيقته وتوأم روحه الشاعرة والناقدة مي مظفّر. هما شكّلا على مدى عقود طويلة من الزمن ثنائياً رائعاً هو الأكثر تميزاً في العطاء الفني والفكري في العالم العربي. ومع رحيل الناصري (1940- 2013) في عمّان، بادرت مي إلى ملء تلك الفجوة القاسية التي تركها غيابه، بكتابة سيرة حياتهما المشتركة بتناغماتها وتناقضاتها وحوادثها وذكرياتها. وضعتها تحت عنوان «أنا ورافع الناصري… سيرة الماء والنار» عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت – 320 صفحة)، وهو من أجمل كتب السِّير وأكثرها تشويقاً لقربها من القصّ الروائي.
رسمت فيه صورةً كانت مستترة عن حياة الفنان بعاداته وطباعه وتقلبات مزاجه وانضباطه، تتجلى قيمتها في الاستنباط والتذكُّر والتوثيق الدقيق بحثاً عن طفولته ونشأته وبداياته ومساره الفني، معتمدةً على ما تركه زوجها من كتابات ورسائل ودفاتر ومدوّنات توثق حياته. هذا فضلاً عن خواطره ونصوصه الأدبية والشعرية وافكاره البصرية.
وخصصت كذلك فصلاً عن حياتها بتفاصيل يجهلها حتى المقربون منها. فالكتاب بما يحتويه من ذكريات وحوادث ومناسبات فنية جمعتهما مع عدد كبير من فناني العالم العربي وشعرائه ومثقفيه، هو كنزٌ من المعلومات، يحيل بين دفتيه إلى ذاكرة جيل كبار فناني الحداثة العراقيين. كما أنّ سلاسة السرد وعذوبة الاستذكار هما من خصائص قلم مي وشفافية روحها.
ورغم أن لها العديد من الكتب الفنية والترجمات والدواوين الشعرية، يأتي هذا الكتاب ليعكس صورة صادقة عن تشابك العلاقة بين الشاعرة والفنان (الماء والنار). هذا التشابك الذي رسم مسار حياتهما المشتركة بين الحلّ والترحال، بين السفر والرحلات وعذابات مرحلة الحرب والاحتلال، والخروج من بغداد والتنقل بين مختلف المدن العربية، والإقامة في عمان والبحرين، وهو مرفق بصور وثائقية تنشر للمرة الأولى من أرشيفها ومن محترف الفنان.
تبدأ مي كتابها برسالة إلى رافع، تخبره فيها بأنها ستواصل الحديث معه وإليه، من أجل أن يظل مقيماً فيها حبيباً ورفيقاً، وتُذكّره باللقاء الذي جمعهما بإيتل عدنان وسيمون فتّال بعد موسم أصيلة في باريس صيف عام 1979، وبأنها ستحذو حذو ذلك الشاب الفرنسي اليافع الذي التقته في منزل إيتل الذي كان يدوّن مشاهداته وخواطره بصورة منتظمة.
الهائم المغامر
«ولدت صداقتنا في الخريف وظلّ الخريف موسمنا الأروع»، تقول مي في سياق حديثها عن أول لوحة رأتها لرافع في دار صديقها الأديب جبرا إبراهيم جبرا، وكانت في بداية مشوارها مع النقد الفني عام 1971، حين طلب منها الشاعر أدونيس أن تكتب مقالات لمجلة «مواقف».
وزارت وقتئذٍ المعرض الأول لجماعة «الرؤية الجديدة»، العلامة الفارقة في تاريخ الحركة التشكيلية الحديثة في العراق، تعرّفت حينذاك إلى ضياء العزّاوي، ووقفت أمام أعمال رافع تتأملها. تقول: «كانت نظراته الفضولية والقلقة آنذاك بداية تعارفنا». وبعد سنتين من الكرّ والفرّ، تُوّجت تلك العلاقة الغرامية بالزواج عام 1973 ليسكنا في كوخ كان مرفقاً ببيت عائلة الناصري، شهد على أجمل الأعمال وأهم اللقاءات الفنية بين الأصدقاء في مناسبات المعارض، لا سيّما معرض السنتين الذي بدأ أعماله عام 1974، وكان يستقطب إليه كبار الفنانين والنقاد العرب.
الهائم المغامر، كان روحاً متمردة متفلتة من كل القيود، توّاقة إلى المعرفة والحرية وسعة الأفق، أحد أركان الفن الحديث ورائد فن الغرافيك في عالمنا العربي، وهو من جيل المؤسسين لتلك الحركة الحداثية التي تطورت في العراق منذ عقد الخمسينات، ووصلت إلى أوج قوتها في السبعينات بتأثير جيل الفنانين الذي بنوا الدعائم الفلسفية والجمالية للحداثة على كيفية استلهام عناصر التراث العربي الإسلامي، بحثاً عن التميّز عن فن الغرب. ورافع واحد منهم، إلى جانب شاكر حسن آل سعيد، وضياء العزّاوي، وإسماعيل فتّاح الترك، وكاظم حيدر، وسواهم ممن زخرت أعمالهم عربياً بالطابع التجديديّ في بينالات الفن العربي الحديث.
درس في الصين فن الحفر على الخشب (1959- 1963) حيث أقام أول معرض له في هونغ كونغ عام 1963، ليعود بعدها إلى بغداد أستاذاً في معهد الفنون الجميلة، قبل أن يسافر إلى البرتغال ويتابع دراسة الحفر على النحاس في لشبونة عام 1967.
هذه المرحلة سجلت اكتشافه جمالية الحروفية العربية، التي أخذت تغزو تكويناته التجريدية. ثمّ عاد بعدها إلى بغداد عام 1969 وأسّس جماعة «الرؤية الجديدة» مع عدد من الفنانين العراقيين، وشارك في تأسيس جماعة «البعد الواحد» مع شاكر حسن آل سعيد.
ومن إنجازاته أنّه أسس عام 1974 فرع الغرافيك في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وتولّى رئاسته حتى عام 1989، الذي تفرغ فيه لعمله الفني بعدما أنشأ المحترف. ترك بغداد في عام 1991، ودرّس في جامعة اليرموك في إربد (الأردن).
ساهم عام 1993 بتأسيس محترف الغرافيك في دارة الفنون في عمّان، وأشرف عليه لبضع سنوات، كما ساهم في تأسيس ورشات الحفر والطباعة في الرباط. عام 1997 درّس في جامعة البحرين وأصبح مديراً لمركز البحرين للفنون الجميلة والتراث. أقام في المنامة عام 1999 معرضه المهم «عشر سنوات… ثلاثة أمكنة» ليعود إلى عمّان ويمضي فيها السنوات القليلة من حياته.
انحاز رافع الناصري للتجريد في استلهام موضوعاته، وجاء اختياره نابعاً من مخزونه الذهني وعشقه للأمكنة المنبسطة، لما لذاكرة الأنهار من خصوصية حميمة في سيرورة فنّ رافع (دجلة والنيل مروراً بالعديد من أنهار العالم التي استمتع بمناظرها)، والذي دمج الحرف بالتجريد، وخاصة في مجموعته الأخيرة «النهر». ووفق كتاب مي «رافع الناصري: رسام المشاهد الكونية» الذي أصدرته أثناء حياة زوجها، فإنّ أسلوب الناصري الفني كان واقعياً، لكنه عقب رحلته إلى لشبونة، أصبح على تماسّ مع الأساليب الفنية الغربية الحديثة، وتعرف إلى أمزجتها وثورة مفاهيمها وتحطيم الشكل والخروج على التقاليد المتوارثة، ما أدى إلى القطيعة مع مرحلته السابقة التي أتت حادة وحاسمة باتجاه التجريد.
وصفته مي في السيرة بأنه «ينفر من الإطالة ويكتفي بالقليل، فالاختزال متأصل بطبيعته، يعتمده في كل شيء. حين ذهب إلى البرتغال للمزيد من الخبرة في مجال الطباعة، استهواه الأسلوب التجريدي، وسرعان ما تبنّاه في بصمته الخاصة في الطباعة كما في الرسم منذ عام 1968، فالتجريد شديد التلاؤم مع تكوينه النفسي والذهنيّ».
تتحدث مي عن السنوات العشر الأولى من حياتهما التي كانت حافلة بالرحلات والسفر واللقاءات بالفنانين والشعراء والمثقفين اللبنانيين والعرب، وكانت ما بين سالسبورغ ولندن وبرلين وأمستردام وباريس، وقد تقاطعت مع صنعاء ودمشق وحلب، وخصوصاً بيروت وذكريات حلقات المثقفين في مقاهيها، لا سيما مقهى «الهورس شو». إنها صولات وجولات على المعارض وبين الأصدقاء من الفنانين الأجانب وورشات الغرافيك وعَمل المكابس التي لا تهدأ واقتناء الكثير من الأحبار والخامات والألوان.
وبعد الحرب العراقية – الإيرانية أعقبتها سنوات من الإنتاج المثمر في بغداد التي ظلت حتى أواخر الثمانينات عاصمة الثقافة والمدينة العامرة بالشغف، قبل اندلاع الحرب الأميركية على العراق وتعرضها للقصف العنيف (ليلة 16/ 17 1991). في ظل الاحتلال والحصار، خرجت مي ورافع من بغداد للإقامة في عمان ليحل رافع أستاذاً في جامعة اليرموك، ثم انتقلا إلى البحرين ليعودا مجدداً الى عمان عام 2003.
بيروت الحلم
في الفصل الأخير من «سيرة الماء والنار»، تتحدث مي عن مقاومة رافع للمرض الخبيث الذي واجهه بمزيد من الإنتاج، بلغ ذروته خلال أعوام 2009- 2011، وهو ما انعكس على إنتاجه الغنيّ بأعمال الرسم على القماش والورق والحفر، فضلاً عن الدفاتر الفنية المتنوعة، من دون أن يتوقف عن إقامة المعارض.
«لبيروت مكانة خاصة وأثيرة في نفس رافع، له طقوسه الخاصة، بدءاً من مكتبة أنطوان أول معلم يقصده ليتزود منها بالجديد… حتى ارتياد مقاهيها ومطاعمها في الحمرا والروشة والزيتونة». نوّهت مي إلى مشاركتهما في حفل التكريم الذي أعدّته نضال الأشقر لإيتل عدنان في مسرح المدينة، ومن ثم مشاركة رافع في معرض «الفن في العراق اليوم»، الذي أعدّه ضياء العزاوي بالتعاون مع غاليري ميم في مركز المعارض في (البيال).
هذه الأوقات التي كانت تتخللها زيارات للأطباء في بيروت، قبل الخضوع للعلاج الكيمياوي في عمان طوال خمس سنوات، وما خلّفه المرض من إعياء وإصابة رجله اليسرى وتسرب المرض إلى العظام. كانت آخر رحلاتهما هي مدريد، أما آخر معرض تكريميّ فقد أُقيم له في المتحف الوطني الأردني في عمان، استقطب إليه المتذوقين من أنحاء العالم العربي، وقد أدخل الفرح إلى قلب رافع، لأنه جاء استنهاضاً لذاكرة الفنان كمثال للعطاء واحتفاءً بإنتاجه على مدى نصف قرن من تاريخه الإبداعيّ، قبل أن يغمض عينيه ويفارق الحياة.
تختم مي «سيرة الماء والنار» بالحلم الذي رأته قبل أسبوع من غيابه. رأت بأنهما في رحلة في جبال لبنان، يمرّان بغابات على طرف الطريق، ثم ترجّل من السيارة يحمل بيده كاميرا وعيناه تفحصان الموقع. تقول مي «طلب مني أن أنتظره ريثما ينتهي، بقيت أتابعه بعينيّ حتى توارى في عمق الغابة. قلقت وذهبت للبحث عنه فلم أجد له أثراً. بقيت أنادي وأنادي فلا أسمع إلا صوتي يتبدد في الفضاء».