الصباح الجديد
في قصائد ديوانها الجديد «حين أردت أن أنقذ العالم»، ترصد الشاعرة المصرية جيهان عمر، لحظة الوقوف على حافة الخطر، وهو ما نستشعره ليس فقط عبر قصائدها المكثفة، وإنما بدايةً من غلاف الديوان، الذي يقدم تجربة بصرية موازية متأثرة بهوايتها وعملها في مجال التصوير الفوتوغرافي، في هذا الحوار تتحدث جيهان مع «الشرق» عن «الذات في مواجهة الكون» و»صفاء الذهن عن طريق تفكيك الحياة إلى مشاهد منفصلة» كما توضح أن «الشعر هو أن تنفجر القصيدة بداخلك لا عن طريق تقليد شعراء آخرين»، رافضة إلقاء اللوم على الجمهور في الابتعاد عن الشعر وتقدمه كـ»مظلوم».
في البداية، تحكى جيهان عن غلاف الديوان قائلة إنه «عبارة عن لوحة لفنانة شابة حين رأيتها للمرة الأولى شعرت أنها هدية قدرية للديوان إذ كنت أشعر بأن العنوان يحمل بعداً تراجيدياً ويحيل القارئ بما يحمله من مبالغة إلى مأساة إغريقية». وتابعت: «لكن هذا الغلاف يجذب المتلقي نحو فرضية جديدة لمعنى الديوان وعنوانه فهو يحيل القارئ إلى ذاته وأن العالم هنا.. في العالم الخاص لكل إنسان». وتوضح جيهان هذا المعنى الجديد من وجهة نظرها قائلة: «طوال الوقت هناك علاقة بين الكون الفعلي الذي نعرفه جميعاً وبين الإنسان ككون»، مضيفة أنه: «في هذا الغلاف هناك الكون الفرد والكون الذي يضمنا جميعاً ولكن الاثنين يسبحان في نفس الفضاء».
مناقشة قضية الذات في مواجهة الكون تُحيلنا على الفور إلى مجال دراسة جيهان التي تخرجت في قسم الفلسفة عام 1993 إذ إنه رغم البساطة الواضحة في اختياراتها الفنية في تنسيق الديوان نجد اختيارات اللغة الفصحى منضبطة لا تميل إلى أي تعقيد لغوي أو بنائي.
تصطحب جيهان عمر القارئ إلى شرنقتها الصغيرة تحكى له «كيف تنضج الأفكار داخل رأسها كحبات البطاطا»، وكيف تنزلق «الحياة مثل شال حريري على كتف امرأة».وهو ما تقول عنه: «الشعر تجربة روحية وذاتية، أنا دائماً أشاهد النظر إلى الكون هو ما أملكه فأنا أراه ولا أملكه ولا أستطيع تغييره وهذا في تقديري مأزق الشاعر دائماً فهو بخياله يشعر أن العالم ملكه وبداخله، لكن في لحظة الفعل يكتشف عجزه التام وأنه لا يستطيع تغيير أي شيء وهذا التوتر هو ما يخلق القصيدة».
كما أشرنا سابقاً فإن الكثير من قصائد الديوان تشبه لقطة فوتوغرافية تصطاد فيها جيهان قصيدتها، لكن هذه اللقطات المتقطعة في الصورة النهائية للديوان تعود لتصنع فلسفة عامة.
وتوضح جيهان ذلك: «أشعر أن جزءاً من صفاء الذهن رؤية الحياة كمشاهد منفصلة مثل ما تراه عيني دون كاميرا لا أريد تزاحم الأفكار في رأسي وتداخل اللقطات ما يُصعِّب تفكيكها هذه وسيلتي لاستقبال الحياة، أن أفتح نافذتي على لقطة واحدة فقط وهي أيضا وسيلتي في الكتابة».
تستعير جيهان أحد تعريفات الشعر «أن تفكك العالم وتعيد تركيبه مرة أخرى» للتأكيد على فلسفتها الخاصة، لكنها تؤكد أن «هذا التفكيك الذي لا يحتمل القضايا الكبرى بمسمياتها الشعاراتية».
وتتابع: «لا أحب القصدية في الكتابة أو الافتعال، فقضايا الإنسان لا تنفصل، لكن طبعاً يمكن قراءة الإنتاج الشعرى والإبداعي وفقاً لتصنيف، يأتي ذلك بعد كتابة القصيدة أن تتماس مع القضايا أو فكرة مطروحة، وإلا صار اسمها القصيدة النقدية».
هذه البساطة والمشهدية التي تميزت بها قصائد الديوان ليست جديدة على كتابات جيهان عمر في دواوينها الأربع السابقة «أقدام خفيفة»، و»قبل أن نكره باولو كويلهو»، و»أن تسير خلف المرآة».وغلّفت جيهان عمر هذه البساطة والمشهدية على مدار الديوان بضمير المتكلم. في قصيدتها «أقدام مترددة»، إذ كتبت:
لم أجد سوى امرأة على الشاطئ
تقعد على كرسي متحرك
مشهد يتحدى هذا البراح والذي يوحي بالحرية
لم أشأ أن أخطو أمامها فأذكرها بالعجز
لم أشأ أن أبلل قدمي فتكرهما
غرستهما في الرمل واكتفيت بالمراقبة
بعد لحظات وقفت المرأة وابتعدت عن عجلات الكرسي خطوتين
وقفت بقدمين ثابتتين فأفسدت القصيدة».
لكنها مع ذلك تعود لتؤكد أن هذا العالم الذي «أحاول الانفصال عنه وأن أقف تجاهه موقف المشاهد أجد نفسي أحياناً متورطة فيه إلى درجة أنى أنساب معه تماماً، أستسلم لحركة الكون وأكون جزءاً من مفرداته».
وتابعت: «هذا الديوان هو أكثر دواويني الذي أشعر فيه أني حرة تماماً في استخدام كل مفردات الطبيعة التي أتعامل معها بشكل تلقائي رغم التباعد الزمنى نسبياً بين أوقات كتابة القصائد».
في الديوان نجد أنفسنا طوال الوقت أمام علاقة حب/ كره، تتجلى سماتها في الكثير من قصائد الديوان فهى رغم ولعها الذي دفعها إلى تسمية قصائد القسم الأول -تسع قصائد- «قصيدة الماء» إلا أنها تعود وتصف البحر بالغدر، وتقول في قصيدتها «سيرة ذاتية للبحر» والتي تصف فيها غرق صديقها المصور الفوتوغرافي الشاب:
«البحر، هذا القاتل
نبتت له أياد طويلة
التفت حول عنقك مثل أخطبوط..
حياتك الغارقة لم تصدق أن بإمكانك أن تنجو مرة».
تضع عمر هذه العلاقة في إطار تناقض المشاعر قائلة: «مشاعر الكراهية والضيق ليست خيار نهائي فأنا أحب البحر، تناقض المشاعر موجود في كل شيء، لا يمكن أن تصبغ على الحياة كلها؛ إنما هي لحظة تمضى وتعود».
من الصعب جر جيهان عمر للاشتباك مع القضايا المطروحة على الساحة، فهي تقف أيضاً موقف المراقب من كل المعارك الثقافية حول الشعر الحر وقصيدة النثر التي تكتبها.
وبعيداً عن كل الأسباب التي يسوقها الشعراء لتبرير عزوف القارئ عن الشعر، تقول جيهان: «أزمة قصيدة النثر، والشعر الحر، ليست التغريب، أو أنها ليست غنائية، إنما التقليد ومحاولات البعض نسخ تجارب نجحت، بوعي أو دون وعى!».
وتتابع جيهان: «القارئ مظلوم في هذه القضية لأن الأزمة ليست فقط مستوى الوعي العام، أو الذائقة العامة إنما أن هذا القارئ قرأ الكثير من الأشعار المتشابهة وأصابه الملل فابتعد ببساطة، طوال الوقت نجد أنفسنا بين أشباه أدونيس وأشباه محمود درويش، وهذه الأشعار المستنسخة لا طعم لها مجرد محاولات استنساخ تجربة وتقليدها يعنى أن الناتج ليس شعراً».
فالشعر وفقا لتعريف جيهان «هو أن تتفجر بداخلك القصيدة»، مع ذلك فإنها تؤكد: «هناك قصائد جميلة، وأصوات مميزة في الشعر الحر، لكنها تتوه وسط كل هذا التكرار، فاستعارة الرؤية التي يمارسها البعض باعتبارها شعر مخيب للآمال، لأن السحر لا يسرق حتى وإن استعرت القصيدة كاملة».