علي لفتة سعيد
يبدو عنوان مجموعة الشاعر زين العزيز ( خطأ في رأسي) يحمل سؤالا استفزازيا أكثر منه جملة توكيدية اعترافية من وجد خطأ في الرأس.. بل السؤال ما هو الخطأ الذي يوجد في الرأس؟ ولأن اللعبة الشعرية تقتضي ألّا يكون النصّ مباشرًا في عملية التدوين، ولا يكون ظاهرًا في عملية التأويل ولا يكون غائبًا في شاعرية الجمل الشعرية، فإن هذا الخطأ بسؤاله سيحمله المتلقّي وهو يبحث عن ماهيته من خلال (29) نصًّا شعريًا نثريًا يجمعها تشابه التدوين الكلّي في شكل النص، وما يطرّزه من فعاليات جملٍ شعرية، سواء بطريقة وضع الجملة في السطر الشعري أو الغائية التي تحملها النصوص التي تعود بالشاعر أو يعود بها الى البدايات التي حملها معه، وربما هي جزء من الخطأ الذي يشير له أو يريد المتلقّي البحث عن إجابته إذا ما اعتبره سؤالا.
إن الفكرة الأساسية لوجود هذا الخطأ ليس من أجل الاعتراف أو عملية التكفير من ارتكابه، بقدر ما هو محاولة لنزف ألم الخطأ وعدّه مركبًا وضعته فيه الحياة ليكون مجبرًا على ارتكابه.. وسواء كان هذا الآخر ولادة أو عائلة أو مدينة أو حبيبة أو وطن، فكل هذه هي أما ابتلاءات أو مكوثٍ إجباري أو تمسك إرادي، فاغلب النصوص تحاكي الواقع بطريقة الألم وتستثمر المعاناة بطريقة البوح وتحمل الصراخ بطريقة التدوين وتناغي القصدية من خلال البحث عن كمية التأويل فيها.. ولذا فإن عناوين النصوص قد تبدو متعارضةً في بعضها مع الخطأ، لكنها تحمل المعنى الذي يراد حمله والتوجه به الى منطقة (الخطأ) الأول ومن ثم العودة الى تقشير هذا الخطأ الذي سبّب الألم للشاعر، وهو ألمٌ متنوّع متشعّب، ولذا فانه يعطي مفعول اللغة ما تأتي به الغاية المتعاكسة بطريقتين.. الأولى: التهكم من الواقع.. والثانية: الإشارة الى تعاكسية التأويل بين مفهوم الجملة الشعرية وبين حصاد مفعولها:
( قبل أن تغلق باب القصيدة
فكر
ثمة وطن يشتهي موتك
يبيع حياتك
ليشتري بندقية) ص12
وهي هنا أولى ارتكابات الخطأ الذاتي للشاعر وهو يخاطب نفسه (موتك) وليس الآخر الذي قد لا يلاقيه في هذه المواجهة، لذا هو معني بعملية ارتكاب الحماقة:
(يعلقون وجوههم على قميصك
امرأة
تسكب القيامة على سريرك
وهو ما يكشف الأنا ومداخيلها ومرجعياتها، كي يدرك لعبة التدوين في تقديم الجملة الفعلية، لتكون هي المهاد، وسيكون الزمن المتاح بأفعاله وأدواته هو الهدف فتتحكّم فيها الدهشة التي تسحبها هذه التعاكسات اللفظية التي انطلقت أغلبها من خلال المخاطبة للقصيدة ذاته.. أي إنه جعل النص الشعري/ القصيدة / بحسب ما جاء في النصوص العديدة هي المحمول الدلالي لدال المعنى المتهكّم الذي صنع له الوهم الذي تحوّل الى قصيدة، ثم تحوّل الى خطأ وهذه القصيدة مرّة تأتي على شكل بلاد أو حرب أو امرأة أو حتى قصيدة بعينها:
( هناك قصائد سمراء
لم تكتب لك
مليئة بالثقوب
بالحرائق
بأعقاب السكائر
بوجوه ممسوخة
وأصوات صاخبة) ص29
ولذا نجده مستمّرًا في مخاطبة الذات/ الداخل/ المتهكّم/ المتمرّد/ الأنا/ من خلال تحويله الى مخاطبٍ له، ليستلم هو الرسالة على شكل قصيدةٍ يعلن فيها ما يريد طرحه من معادلات التأويل، سواء كان هذا الطرح صراخًا بوجه خطأ، أو خطأ ارتكبه الشاعر ذاته، أو إنه لم يعد مهتمًّا بما حوله من (إيمان) بما يراه، فقد تحوّلت من خلاله الأشياء الى خطأ ونامت في الرأس فمن يوقظ (الأخطاء) ويطردها؟
ورغم إن العنوان الرئيس كان واحدًا من النصوص الشعرية، هو وحده يفضح ما يضمره من السؤال.. فقد جاء كنصٍّ على شكل سؤالٍ أو بدأ بسؤال.. وهو هنا تحوّل من المخاطب الى المتكلّم، ليعلن طفولته من خلال النص، ويعلن تمرّده أو توصيف حاله المتصارعة مع المحيط.. وهو نصّ ربما يجمل الكثير من التحوّلات الفكرية للشاعر وقد وضعه في نهاية الثلث الأول من المجموعة، أو قبل انتصاف صفحات المجموعة ليكون نقطة الارتكاز في المعاني:
( السؤال الذي يخدش رأسي
يؤول الكون الى أنثى
هو خطا فادح
متعلّق بتفاحة أخرى
أيتها الريح العاتية
أنا لم أكن شجرة
في يد حطاب
ولا أرجوحة بين طفلين حزينين
أنا طائر السنونو)
ثم يعود الى ممارسة اللعبة التدوينية عبر فعل المخاطب سواء كان هذا المخاطب رجلًا أم امرأة حالةً ام مجازًا، إلّا إنه لا يريد ارتكاب الخطأ في اللعبة الشعرية، بل يريد تجميله ليكون شعرًا . عبر تداول المفردة مع تصارعها التأويلي، وهو ما جعل أغلب النصوص تمارس لعبتها وفق المستوى الإخباري التصويري. وهي جملة من الصعب الإمساك بها إلّا من خلال الشعر، ومن خلال هكذا بنية كتابية تجعل المستوى البنائي لا يرتكز على محمولٍ واحد، بل على عدّة محمولاتٍ في آن واحد:
( ليس ركاما
هذا الي تعثرتِ به ليلا
إنه غصن واهن
سقط من قلبي) ص54
وهي لعبة مراوغة بين الإخبار عن الأسف من خلال التصوير الفعلي لماهية الجملة الشعرية وبين التصوير لهذا الأسف من خلال المفعول الشعري لعملية التدوين.
إنها مجموعة تدلّ على وجود كميةٍ كبيرةٍ من الشعر وطريقة التدوين والمماحكة مع الواقع، لذا كان المعترك إنه قابل للمحاورة مع الخارج والداخل، وقد أنتج صيغة سؤال يمكن أن يجده المتلقّي في النهاية، وهو يضع السؤال الذي بدأ( ما هو الخطأ في رأس الشاعر؟)