الرواية صورت الحياة في الجنوب الأمريكي، بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب سنة 1865، وهزيمة الجنوب الذي كان يعامل الزنوج بعدم احترام، ومن هنا جاء الفيض الروائي الزنجي، الذي قرأناه وكتبه الروائيون الأمريكيون من أصول أفريقية: هرييت بيتشر ستاو، وجون شتاينبك، وهوارد فاست، وآرسكين كالدويل، وجيمس بالدوين، نجد في هذه الرواية تأكيد مكارم الأخلاق وصون الشرف، والحفاظ على السمعة لا كذباً بل حقيقة، من هنا رأينا انتحار (كونتن) الذي أفجعه حبل أخته سفاحا، ما استطاع قتلها لأنه كان يحبها حباً جماً، فقتل نفسه، فضلا عن أخلاقيات الأم (السيدة كارولاين) المتمسكة بأهداب الفضيلة، وكانت تحنو على الأسرة الزنجية التي تخدمهم، كما تحدب على أبنائها، وظلت لـ( دلزي) المربية الزنجية والطاهية، كلمتها النافذة لدى الأسرة، وكذلك (جاسن) الذي على الرغم من براكماتياته وذرائعياته وميكافيلياته، ظل يراقب سلوك ابنة أخته (كونتن) ويعظها وينصحها، لكن من غير جدوى؛ فالعرق دساس، وعاهرة يوما، عاهرة كل يوم! كما يقول.
الحفاظ على الشرف، القريب من سلوك الشرقيين وجدته- كذلك- في رواية (مويرا) وهي من روائع الأدب العالمي، للروائي الأمريكي (جوليان كرين)، لكن هذا الانفلات الأخلاقي الذي ضرب أمريكا الشمالية وأوروبا، إنما كان من نتائج الحرب العالمية الثانية، وتفشى في ستينات القرن العشرين، وظهور الهيبيين المنفلتين، وفرقة البيتلز الغنائية، ولبس النساء للملابس القصيرة، الميني جوب والمكرو، واختراع حبوب منع الحمل، فضلا عن دعوات ما عرفت بـ( ثورة الشباب والطلبة) سنة ١٩٦٨، التي أطاحت برمز فرنسة الجنرال شارل ديغول، لينسحب من الحياة السياسية، الى بيته الريفي ومن ثم ليموت في خريف 1970، وكادت تطيح بالزعيم الجيكوسلوفاكي (دوبجيك) لولا نجدة الدبابات السوفيتية له، والإنزال السوفيتي الهائل في آب1968.
رأيت في الرواية كرها لليهود، وهو ما كان جليا في ( يوليسيس) جيمس جويس، فضلا عن رواية (موبي دك) للروائي الأميركي هرمان ملفل، ولا بأس من الإشارة إلى أدب وليم شكسبير، ولا سيما مسرحيته (تاجر البندقية)، يتجلى ذلك في حديث (جاسن) مع أحد الأشخاص بشأن زراعة القطن، الذي أمسى من تجاره:” أو تظن أن المزارع يخرج بشيء من كل ذلك عدا (..) احديداب في الظهر! أوَ تظن أن الرجل الذي يتصبب عرقا من بذره وزرعه يحصل على فلس أحمر غير كفاف العيش؟ فإذا أنتج غلة كبيرة، فهي لا تستحق القطاف؛ وإذا أنتج غلة صغيرة، لم يكن لديه ما يكفي للحلج. والفائدة؟ لكي تأتي شرذمة من اليهود الشرقيين- وأنا لا أتحدث عن الذين يعتنقون الدين اليهودي، ولعلك واحد منهم (..) وأنا لا اعترض على اليهود كأفراد، إنما على الجنس، العرق. فأنت توافقني على أنهم لا ينتجون شيئاً”. ص24″
” فما من إنسان إلا ويعرف– إلا إذا بلغ به الغباء حد الإيمان بكل ما يقوله اليهود في ذلك– إن السوق في ارتفاع دائم لأن الدلتا اللعينة بأجمعها على وشك الغرق بالفيضان من جديد، والماء يقتلع القطن من الأرض كما حدث في العام الماضي، محاصيلنا تغرق سنة بعد سنة (..) إنما أريد أن أسترد نقودي التي إبتزها هؤلاء اليهود الملاعين- بمعلوماتهم المضمونة لما يجري وراء الستار- وعندها سأكف نهائيا، وليقبّلوا قدمي لكل سنت أحمر يستخرجونه مني بعد ذلك”.ص292ص293.
ويظل كره البيض للزنوج واضحا، يقابله كره الزنوج لهم، وفي أفضل الأحوال تحاشيهم، إذ كثيرا ما ترد على لسان (جاسن) تعابير كارهة للسود قائلا: إن ما يحتاجه هذا البلد هو العمال البيض. فلو جعلنا هؤلاء السود الكسالى يتضورون جوعا سنة أو سنتين، لأدركوا حينئذ قيمتهم الحقيقية” ص246.
كما أود الإشارة إلى المقابر الخاصة بالزنوج، على الرغم من الدين الذي يجمعهم، مما يؤكد وجود الفصل العنصري اللعين وقتذاك حتى في الموت، إذ يناجي(جاسن) نفسه بعد الفراغ من مراسم دفن أبيه” فتوجهت نحو مقبرة الزنوج. ووقفت تحت أرزة احتمي بها من المطر..” ص 258
كما ظهر في الرواية جليا واضحا، كره الأمريكي الأقدم، لموجات الهجرة إلى أمريكا بحثا عن الثراء والعيش الرغيد، فها هو (جاسن) وقد رأى تلاعب القائمين على بورصة نيويورك بسعر الدولار، صعودا ونزولا، مما يسبب للزبائن والمتعاملين بالبورصة أفدح الخسائر، في حين يجني هؤلاء طائل الأرباح، عازيا هذا التلاعب لليهود الشرقيين المهاجرين، فهو ما اكتفى بذم اليهود؛ كل اليهود فإنه هنا يضيف إليهم صفة (الهجرة)؛ يهود شرقيون مهاجرون مؤكدا:” يظهر أن هؤلاء اليهود الشرقيين أيضا لا بد لهم من وسيلة للعيش. ولكنني أضيق ذرعا كلما رأيت أن بوسع كل أجنبي لعين عاجز عن طلب الرزق في بلده، حيث أوجده ربه، أن يأتي إلى هذا البلد ويحفن المال من جيوب الأمريكيين”.ص248