ليس غريباً أن تترك حقبة “جمهورية الخوف” وبعد اربعة عقود من الهيمنة المطلقة على تفاصيل حياة شعوب هذا الوطن المستباح؛ كل هذه الاحتياطات الهائلة من الثول والرثاثة المادية والقيمية، وكل ذلك حدث ضمن نشاطات واسعة وممنهجة لصناعة ما أطلق عليه بـ “العراقي الجديد” الذي ينهش فطرته السليمة وبوصلته وهو يظن انه يفعل خيراً، هذا الارث من حطام “المعطوب والمذعور” وبدلاً من أن يحظى بعناية واهتمام الادارة الجديدة للبلاد بعد زوال النظام المباد، ولا سيما منها المؤسسات الثقافية والتربوية والاعلامية، تحولت الى وقود واداة بيد قوى الردة وواجهاتها المتعددة الوظائف والاشكال والتي لم تعد مضطرة لاخفاء حنينها لحقبة النظام المباد. من تسنح له الفرصة والادوات لتتبع ذلك في الحقل الاشد تأثيرا في حياة المجتمعات والدول الحديثة (الاعلام) سيكتشف معطيات تشير الى فضيحة من العيار الثقيل، حيث تعجز اقوى الميكرسكوبات الالكترونية من العثور على وسيلة اعلام معتبرة ومؤثرة تنتصر فعلاً لقضايا العدالة الانتقالية والحداثة والحقوق والحريات، ومن يدعي ذلك وسط سيل من خطابات وادعاءات ثوروية ومدنية لا يخرج غالباً عن وظيفة حصان طروادة في هذه القلعة المهجورة منذ زمن بعيد.
ما خلا عدد من المحاولات والنشاطات الفردية المعزولة والمحدودة جداً؛ لا وجود لاعلام حر ومهني ومستقل، اما اعلام الدولة “اللي مضيعة صول جعابها” فصار نهباً لقوى ومفاهيم ما قبل المغفور له كوبرنيكوس، وقائمة اولوياته واهتماماته مسكونة بثارات القرن السابع الهجري وما يرافقها من فزعات لمحاربة الشياطين من شتى الوظائف والاحجام. لذلك وجدت هذه التجربة الفتية نفسها وآمالها ومطالبها العادلة والمشروعة التي هدهدتها، من دون ناصر ينتصر لها. لذلك تمكن المتربصون بها من الاستدارة حولها وعزلها، بعد ان افرغوا وباسناد اثول من ممارسات وهذيانات من تلقف مقاليد امور “التغيير” كل شعارات وخطابات التحول صوب الديمقراطية ومؤسساتها الحديثة، من مضامينها ووعودها. لقد تنكرت عملياً قطاعات واسعة من المنخرطين في المجال الاعلامي، لجوهر ومغزي هذه الوظيفة الحيوية، أي العثور على المعلومة الدقيقة وايصالها من دون مسخ وتزييف الى المتلقي، ولم ينجو من هذا المصير عدد غير قليل من الشخصيات المدججة بالعناوين والالقاب المهنية والعلمية، عندما تحولوا الى مطية لنقل وتدبيج القصص والهموم المفبركة الى قراءهم ومشاهديهم من دون ادنى حس من عقل أو ضمير.
ضمن المعطيات الفعلية لا التمنيات واسمال الطوباويات؛ لا نمتلك اليوم اية امكانية اعلامية وبحثية بمقدورها مساعدتنا؛ في التعرف على حجم الاكاذيب وهرم الاولويات المقلوب، الذي يمد ثولان المشهد الراهن بما يحتاجونه من علف الاخبار والهموم والقصص المفبركة. ومع هذا الخلل البنيوي لا يمكن انتظار زحزحات جدية لاصلاح وتغيير الحال، والذي تروج له المصالح والعقائد والشبكات الاعلامية المستثمرة في حقول تخصيب سلالات مستجدة من الثول العضال، ان تعاظم مساحات التيه والعتمة والالتباس في المشهد الراهن، يعود بالاساس لنوع التوجهات والغايات التي تتصدر قائمة ممولي هذا النوع من الاعلام، الذين يدركون جيداً ان لا حياة لهم من دون الضخ الواسع لديمومة الثول وتوسيع رقعته. أما بعض المحاولات الفردية لاقتفاء وتقصي اثر شيئاً من الحقائق، فبالرغم من نبلها الا انها لا تلبث أن تطمر تحت وابل مكثف من قذائف غوبلز المصفطة “الكذب وضخ المزيد منه الى ان يصدقه الناس” وهذا ما اكدته الدراسات التي وجدت انتشارا واستقبالا واسعاً للاشاعات الكاذبة على حساب الحقائق..!
جمال جصاني