حمدان طاهر المالكي
الشعر طريقة في التطهر من أدران العالم , إنه محاولات دائمة في المقاومة والحلم بصنع عالم إنساني يتسع للجميع , وتلك هي وظيفة الشاعر الباحث دائما عن عشبة لمجد الإنسان , وهي مهمة عظيمة تستحق أن يعانق فيها الشاعر المكابدات والعذاب في الوصول إليها , إنها نوع من رؤيا الصوفية التي ترى ما لا يرى غيرها ولعلها المهمة الأصعب للشاعر حين يكون العالم عبارة عن ضجيج وحروب وكوارث مستمرة , والشاعر كائن لغوي تسكنه الكلمات وبها وحدها يتنفس ويعيش لأنها أداته الوحيدة لرفض كل هذه القباحة التي تسيطر على العالم . من الشعراء الذين أتوقف دائما عند نصوصهم الشاعر أفضل فاضل , كل نص عنده هو طريق أو رؤيا أو جذبة روحية, إنه نص يجعلك دائما تفكر , تتأمل , وتبكي , إنه نوع من الحنين لشيء مفقود , يبحث عنه وهو يعرف إنه لن يجده , هناك قوة خفية تحركه لدفع الكلمات نحو أماكنها بطريقة تشبه فعل الساحر ولكنه هنا ساحر بريء في عالم تعوزه البراءة والنقاء . يقول الشاعر الأمريكي وليم كارلوس وليمز ( كان علي أن أدرس تقنيات الشعر كما يدرس الطهراني توراته لكي أصل إلى عاطفتي ) , هل درس أفضل فاضل هذه التقنية وعرف إنها وحدها من توصله لمرحلة الوجد الشعري يقول في أحد نصوصه:
لست نبيّاً بالمَرّة
الأمرُ أبسطُ من هذا بكثير ،
و مَن أَرسَلَني
ينتظرُ أن أُحدّثَهُ عن أسفاري
حين أعود
سيضحكُ كثيراً ،
و أَسكُت ُ
و سيبكي كثيراً
و أشاركُهُ البكاء ؛
لكنني في النهاية حتماً لن أعود ،
أبداً
حتى و إن أصرّ أن يرسلني ثانية ً
فقد كان الأمرُ مُتعِباً جداً
و مُنهِكاً جداً
و قاسيا ؛
لا يُهوَّنُ بمطرٍ كالبُكاء
و لا ضحكات طفيفة
لا تُغني ؛
أنا لن أعود …
أَبْقِني عندك ،
هناك
أتوسّل إليك
يا أبي
سُدّ الباب
و النوافذ
و النَفحَةُ التي أنا
رُدَّها إلى رئتيك .
في هذا النص تظهر للقارئ عدة احتمالات فالنص كما يقال حمال أوجه , ومن الصحيح القول أن بعض القراءات والتفسيرات تسيء إلى النص ولهذا لن ادخل في تفاصيله فأنا لست ناقدا يحلل ويفكك شفرة النص , أنا أكتب بصفة القارئ ولعل هذا يشفع لي القول أن النص هو سؤال عن الوجود , لماذا نحن هنا , وإلى أين سنمضي , والشاعر هنا يتخيل أو قل يتسامى حد الوصول إلى مقام النبوة رافضا مهمته وهي إحدى تجليات الشاعر حين يصل لمرحلة الهيام وهي أعلى مرحلة عند الصوفية بحسب المراتب التي وردت في كتبهم . هناك نص آخر يتحدث عن أحد الشهداء سأختصره هنا يقول فيه :
واسعٌ هُـوَ المدى الذي تطيرُ به روحُك الآن
و ضيّقٌ زقاقُ بَـيـتِـك ،
هل للأسى مِن لُغةٍ أُخرى غير خَشَب التوابيت ِ !
أعرفُ أنّ لقَلبِ أُمّكِ الآنَ سكاكينٌ موغِلَة في الرَهافةِ ،
و لأَهْلِكَ زَهرتان تذبلانِ ، هُما عيناك ،
و لَهُم ، مما تبقّى
قُبلةٌ أخيرةٌ سَقَطَتْ مِن خَدّك عند باب البيت في عُجالَة الوداع الأخير ،
لم يَعُد هناك مِن فرصة ٍ لعناق ٍ جديد ،
وفي المقطع الأخير يقول :
كلّ شيء ينهارُ ،
و يضيق
إلّا المدى الشاسع الذي بهِ تطيرُ روحُكَ الآن َ ،
و اسعٌ جداً و بعيد ..
….
لَـوِّح ْ لنا الآن َ
مِـن هناك َ
لَـوِّح ْ
إنّا نَـراك
إنها الرؤية مرة أخرى التي يرى فيها الشاعر كل شيء , يرى الأرواح وهي تصعد نحو السماء , يرى لوعة الأم وهي تكابد ألم الفراق , يرى دمع الصغار حيث العالم مجرد صخرة صماء لا تنظر ولا تتكلم ولا تسمع , من الذي أملى على الشاعر هذه الكلمات هل هي روحه الهائمة في فضاءات السؤال من تستكتبه أم هو الموقف الذي يجعله يكتب بهذه الطريقة والتي يسميها ماندلشتام ( حتمية التعبير ) , هل يمكنني الآن القول أن مقابل حتمية التعبير تبرز حتمية أخرى هي حتمية القراءة لهكذا شعر إنساني حي يسمو ويعلو ويبقى مع الزمن وذلك هو ربح الشاعر الوحيد في معادلة خاسرة.